صديقي الشَاعرُ، من غزّة

الكاتب: المتوكل طه
الشّاعرُ يسكنُ بيتَ قصائدِه،
ويؤثّثهُ بالماءِ وبالنارِ وبالرّيحِ،
يؤوِّبُ فيه بأجنحةِ الياقوتِ،ولا يغفو،
يبقى يَقِظاً،ولهذا يَحلمُ،ويُعبّرُ رؤيتَه للناسِ،
ولكنَّ الناسَ رأت ملءَ العينِ الكابوسَ،
فكيف له أنْ يشرحَ ما وَقَعَ لهم في الليلِ،
وقد راحوا..
لا بدّ،إذاً،من لغةٍ أخرى،كي تعقلَ أفئدةُ الظَنِّ،
وتهدأَ أطيارُ اللّاهين.
لقد عبروا العتمةَ،أو أمسوا في ساحتِها،
لم يبرحْ أحدٌ نجمتَها السوداءَ،
فظلّوا خلفَ ستائرِها،
واعتقدوا أنّ الضوءَ سيكشفُ خيمتَهم،
فاجتمعوا،وأقاموا لهزيعِ الكُحلِ،صلاةَ الموتِ،
وباتوا مع أشباحِ الأنقاضِ يدورون على ساقيةِ الذّبْحِ،
ولم يتّخذوا تذكاراً،أعني
لم يقفوا صفّاً بينَ ركامِ الجدرانِ،
ولم تُومِضْ في الليلِ العَينُ،
ولم تأتِ الأطيارُ لتحملَ بعضَ الجرحى..
لم ينتبهوا أنَّ الطرقاتِ انغلقت،
فأشارَ الغَوثُ لأنْ يلجوا أبوابَ القلبِ،
ويغرسَ كلٌ نخلتَه في الصحراءِ،
ويستلَّ من الأضلاعِ فسائلَ تمْرٍ نبويٍّ،
ويفيضَ بأدمُعِه القَمريةِ حتى
تمتلئَ الواحةُ،ثانيةً،بالأغصانِ..
هنالكَ سيعدُّ النازحُ رحلتَه العشرين..
صديقي الشاعرُ؛تركوه
ليبقى تحتَ الأنقاضِ،ليحرسَها،
أو غادرَ نحو حدودٍ مُبهمةٍ،
لا تعرفُ معنى اللهِ تعالى!
وأرى أنّ الشاعرَ لم يبرحْ غزّةَ،
ظلّ المصلوبَ على الحَنّونِ الشائكِ،
يلمحُ في موقدةِ الكلماتِ ذِئابَاً تَجأرُ،
أو قلبَ قَتادٍ يحتضنُ الأطفالَ التسعةَ،
وأباً يجترُّ زَفيرَ الغضبِ المكتومِ،فيحتشدُ القلبُ،
ويذوي..
يسمعُ مَن نادوا،خلفِ القضبانِ أو النيرانِ..
يقولُ؛لعلَّ الأصداءَ تدقُّ النافذةَ،فينتبهُ العَرْشُ الخَشَبيُّ،
ولكنَّ خليفتَنا المشغولَ؛سيلهثُ خلفَ القاتلِ
كي يمنحَه المفتاحَ الذّهبيَ وينبوعَ الصوّانِ..
ومرآةُ صديقي الشاعرِ من غَبشٍ دمويٍّ،وشظايا..
والخَزَفُ رمادٌ،وغروبٌ وثنيٌ،
وخُوانٌ مكسورٌ..
ولياليه حطامٌ يتفصّدُ من أرجلِه الداميتينِ،
ومن فتحاتِ المطرِ الساقطِ
من سقفِ شتاءٍ يعقصهُ كالعقربِ..
هذا المسكينُ؛قصائدُهُ يُطعِمُها للكانونِ،
فَلا يعرفُها القُرّاءُ،
ويكتبُ كي لا ينتحرُ العصفورُ،من الهجرانِ..
صديقي ينعفُ نثرَ اللغةِ المتوهّجِ،في وَجْهِ الشِعرِ،
ويرسمُ أشلاءَ الحربِ على الجدرانِ،
ويعرضُ فوقَ الرَّكْحِ روايَتَهُ المطعونةَ برِماحِ الضادِ،
فلا يبقى في المسرحِ إلا مَن ماتوا،
أو دُفنوا في مقبرةٍ لا تعرفُ أسماءَ لفائِفها التِسعين..
صديقي امرأةٌ تطوي نهدَيْها للنسيانِ،
فقد ماتَ الأبناءُ،وراحَ البيتُ،وغابَ العِنّينُ..
وقد يبدو سيدةً عذراءَ افترعتْ كلَّ الأثمارِ،
وظلَّ الحامضُ يتلمّظُ في الحَلْقِ الريّانِ..
وأعرفُ أنَّ صديقيَ وَعْلَ الأبدالِ،يُصلّي ويصومُ،
ويعلمُ أنَّ الحربَ لها وجهان؛فإمّا
إتمامُ الفَرْضِ،مع الشكرِ الوافرِ،
أو يُسْقِطُ كلَّ تكاليفِ الحَقِّ..
وقد أذهَلُه حَرْقُ الحَلّاجِ،
وكان سيبحثُ عن مفتاحٍ آخرَ
ليرى وجهاً مختلفاً،فيما بيَّنَهُ المشنوقُ،
وقد يلقى ما برّرَ فِعلَ الشيطانِ،
وما زالَ يُقَلِّبُ أوراقَ الطَوّاسين.
صديقي شيخٌ يتكئ على النَسَماتِ البحريةِ،
ويحاولُ أن يصطادَ الحوريّةَ،فتفرُّ،وتضحكُ
من شَيْبٍ يغزو فُودَيهِ،فيبكي مثلَ الرُبّانِ التائهِ،
سيظلُّ بعَرْضِ البحرِ عقوداً حتى يدركَهُ الشاطئُ،
والشاطئُ خلفَ كهوفٍ تسكنُها الغيلانُ،وأبناءُ التنّين..
سيذكرُ يومَ توحّشَ نعناعُ الكفّين،وكان شغوفاً،
فَابْتَلّ الحوضُ من الكأسِ،
وأطلقَ نحلَتَهُ الحَجَريَّةَ،وانسدلَ غمامٌ فوق العينين..
لقد تركت خطواتِ العشْبِ على البَرِّ الظمآنِ،
ولم تنظر لترى ما فعلَ السِّاحِرُ بالأفعى..أو
كيف أذابَ الماءُ العسليُّ الصوّانَ..
سيحملُ،بعد الحربِ،السَّرْجَ،
ويتركُ صومعةَ الباكين.
سيبدأُ،من أوّلِ جُرحٍ،تدوينَ الخطواتِ على العوسجِ،أو
يحصي قطراتِ العَنْدمِ،وسيولَ الأوردةِ النضّاحةِ،
ويعددُ أوتادَ الخيماتِ السوداءِ،
وذلَّ الأيامِ،على مدِّ الجوعِ،
ومذبحةَ الأخوةِ،في كلِّ مَرابعِ قايين..
صديقي نامَ،وما نامَ!فقد شربَ الرّملَ،
وغطّى زَهرَ الجَدَّاتِ بلحمِ ضلوعِ المذبوحين..
وسارَ مع الأشباحِ،ليبلغَ صبّارَ الموتى
الباقين..هنالكَ،
حيثُ سياجُ العادِينَ..
وما من كفٍّ تسندُ شاهدَه المكسورَ..
سيبكي،أو يقتلهُ الشوقُ،وينفجرُ حَنينُ الرُمّانِ،
وتبدأ أغنيةُ اللاجئِ داليةً،من سِفرِ التكوين.
صديقي لا يعرفُ غيرَ عَجاجٍ أعْشى رؤيتَه،
لم يلحظْ أيَّ زنابقَ تتبعهُ،
وهو يغذُّ خطاهُ ليخرجَ من أسدافِ العتمةِ،
فيكونُ على هضباتِ دخانٍ مسمومٍ،
وتئزُّ عليه طيورٌ ساخطةٌ،
والجِنُّ يدوّي في الوجهِ الزائغِ،في كلِّ متاهاتِ الويلِ،
فكيف سيلقى الوردةَ،أو يجدُ خيالَ الثلجِ؟
سيجترحُ جهاتٍ،يرسمُها لتكونَ مدائنَه الآتيةَ،
سيطلقُ فيها أجنحةَ النّورِ وأقلامَ التلوين..
ويعشقُ،ذاتَ الوجهِ الفوّاحِ بأعنابِ الخَفَرِ،
ويكتبُ أجملَ ما كتبَ المجنونُ،ويلقى ليلاهُ،
وقد يركبُ خطواتِ الهائمِ،إنْ لامسَ شُبَّاكَ الرّائين..
صديقي الشاعرُ من شمسٍ،
ولدته الأشجارُ الناريةُ،قربَ خيامِ الرَّعدِ،
وشبَّ على الأمواجِ الساخنةِ،
وأرضعه الليمونُ لباءَ الغيمِ،
وغسَّله الصيفُ بأضواءِ البَرقِ،
ورنّق خدّيهِ بأزهارِ الغاوِين.
صديقي الشاعر؛من وَرد البحرِ،ونَشْرِ البيّاراتِ،
وأوردةِ المطرِ،وحنّونِ الأعراسِ،
وأحلامِ المقتولين..
صديقي الشاعرُ من حَبقٍ،
وسيزهرُ مثلَ الحقلِ،
ويحضنُ كلَّ مجرّاتِ الكونِ،
ويكتبُ أجملَ ما كتبَ الشعراءُ..
صديقي أمهرُ مَن زرعَ النرجسَ
فوق شفاهِ الأنهارِ الظامئةِ،
وأحلى مَن أهدى نايَ الأحزانِ المُلتاعَ،فضاءاتِ الخسرانِ،
وساهرَ بدرَ الباكينَ على الأطلالِ..
ولولا الصَحوُ لما ناموا في الكلماتِ،
ولولا الذّوبُ لما عطشوا لشفاهٍ
ما ابتلت إلاّ بالكَشْفِ،
فيا أوّلَ مَن أوجعَ قلبي،دونَك كلُّ الكلماتِ،
ودوني كلُ قصائِدكَ اللاّهثةِ وراءَ السّاعين
إلى بيتٍ،قد يرجع يوماً،
أو يبقى حُلماً يحملهُ الحبّارون،
على الصفحاتِ المحروقةِ،درباً،ليدلّوا مَن تاهوا
في الأزمانِ،على البيتِ،وتبقى الأعشابُ على الثوبِ،
لِيَنْدَهَ من خلفِ حدودٍ مغلقةٍ،أبوابَ الدارِ..
فَيوماً ما سنكون،هنالك،تحتَ الشرفاتِ،
ونذكر هذي الأيامَ الصعبةَ،
ونقولُ كما قالوا:لن نعبرَ ذاك الزمنَ،ضحايا،
بل ناجون من المَعْفَرةِ المفتوحةِ،
في عصرِ شُهودِ الزّورِ الضعفاءِ الهَشّين..
ونسقي وردتَكَ الباقيةَ بِوَقْعِ الميزانِ الرنّامِ
التوّاقِ إلى الأيام الأولى،
حيثُ الدارُ هي العودةُ للموجِ الأوّلِ
في الأسماءِ الحُسنى للأرضِ،
وللحنّاءِ المجبولِ على الحيطانِ،
وقمصانِ الزفّاتِ،
وتاءِ التأنيثِ،
وإغواءِ التنوين..
صديقي،سيعودُ قريباً،إذ يخرجُ من أوهامِ الغُربةِ،
كي يدخلَ معراجَ العائدِ،
ليس لأبوابِ مُخيّمهِ المُتعبِ،
بل لبلادٍ تمتدُ من الماءِ إلى الماءِ،
وقد يكتبُ آخرَ ما خطّ على الوجهِ الأسمرِ
من فَرَحٍ،كان سنابلَ قمحٍ في الحابونِ،
وخُبزاً في كفِّ المِحراثِ،
وطيراً من منديل البحرِ،يجنِّحُ مثلَ سحابِ النارِ،
ويرهصُ أعشاباً في الطين.
صديقي الشاعرُ عادَ إلى غزةَ..
هل عادَ؟
بلى!
نَصّاً مذبوحَ الأعناقِ،
وقَلباً من نَصْلِ السِكّين.