ندمر أنفسنا بأيدينا؟!

الكاتب: رامي مهداوي
في زمن تتساقط فيه مدننا واحدة تلو الأخرى، وتُمحى أحياء غزة عن وجه الأرض، ويُسحق شعبنا تحت ركام الموت، لا يزال بعضنا مشغولاً بإحصاء أخطاء الآخر، لا في مواجهة الاحتلال، بل في مقارعة أبناء الوطن أنفسهم. نحن الفلسطينيين، وبعد أكثر من سبعة عقود من النكبة، وأكثر من سبعة عشر عاماً من الانقسام، أثبتنا للأسف أننا بارعون في تدمير ذواتنا بأيدينا، وكأننا نصرّ على أن نكون الخصم والقاضي والجلاد في معركة نحن ضحيتها جميعاً.
لقد اعتدنا الحديث عن "العدو الخارجي"، عن إسرائيل التي تقتل وتحاصر وتنهب الأرض وتطمس الهوية، لكننا نتحاشى الحديث عن العدو الذي يسكن بيننا، بل فينا: الاقتتال الداخلي، الكراهية السياسية، التخوين، الحقد، التدمير الإداري، الانفصام الجغرافي، واللعب على الحبال الأجنبية. نقول إن الاحتلال هو السبب، لكن الحقيقة المُرّة هي أننا نمنح الاحتلال أعظم خدماته مجاناً، عندما نحول بنادقنا إلى صدور بعضنا، ونجعل من غزة سجناً ومن الضفة حقل تجارب بيروقراطية، ومن الوحدة الوطنية شعاراً خالياً من المضمون.
الإعلام الفلسطيني تحوّل إلى سلاح دمار داخلي، كل طرف يحفر قبر الآخر على الهواء مباشرة. الأسير يُقسم، الشهيد يُعتمد حسب الجهة التي ينتمي إليها، والجريح يُهمّش إذا لم يكن "من تنظيمنا". أيّ مهزلة وطنية هذه؟
لقد صنعنا واقعاً عبثياً اسمه "الشرعيات المتعددة"، ورضينا أن نُحكم بعقليتين متناقضتين، كلٌّ منهما يدّعي أنه الممثل الشرعي والوحيد لشعب أنهكته الحرب والفقر والحصار. هل يحتاج الفلسطيني إلى أكثر من عدو؟ ألا تكفيه طائرات الـF16 والجدران الإسمنتية وبوابات الحواجز؟ لماذا نصرّ على تمزيق الجغرافيا والذاكرة والسياسة والأمل؟
الاقتتال الداخلي ليس فقط بالرصاص، بل بالصمت. بالصمت على الفساد، بالصمت على الطابور الخامس المنتشر بيننا لتدميرنا والحفاظ على ذاته، بالصمت على تغييب المحاسبة والمساءلة، بالصمت على إذلال المواطن، بالصمت على تحويل القضية إلى وظيفة، والسلطة إلى غنيمة، والنضال إلى "مضاربة".
هذا الصمت هو خيانة باردة، أكثر فتكاً من الرصاص، لأنه يسمح للانهيار أن يتمدد بهدوء داخل عظام الوطن حتى يتحلل تماماً.
من يراجع التاريخ الفلسطيني يدرك أن النكبة لم تكن لحظة واحدة عام 1948، بل كانت سلسلة متواصلة من التمزق الداخلي والخذلان الذاتي. فمن الثورة الكبرى في الثلاثينيات، حين تناحرت الفصائل والقيادات على الزعامة، إلى سنوات منظمة التحرير حين دخلت الصراعات الفصائلية على الخط، وصولاً إلى الانقسام الأسود في 2007 الذي قسم الوطن والوجدان، يتكرر المشهد ذاته: الفلسطيني لا يكتفي بمواجهة الاحتلال، بل يطعن نفسه بنفسه. لم يتعلم النظام السياسي الفلسطيني من دروس بيروت ولا من سقوط المخيمات في لبنان، ولا من خروج الثورة إلى المنافي. التاريخ الفلسطيني حافل بلحظات كان يمكن أن تُشكّل نقطة تحول نحو الوحدة، لكننا في كل مرة نختار الانقسام، كأن لعنة الانشقاق تسكننا، وكأننا نرفض أن نكون شعباً واحداً حتى في مواجهة الموت.
اليوم، شعبنا في غزة يُذبح بلا رحمة، ويُهجّر من مكان إلى آخر، ويأكل من تراب الأرض، ويبحث عن حياة بين ركام الموت. ومع ذلك، لا زلنا عاجزين عن تشكيل حكومة وحدة وطنية. ونعقد المؤتمرات للحديث عن "رؤية وطنية" فيما الناس يدفنون أطفالهم بأيديهم. أية رؤية هذه التي لا تبدأ من وقف الاقتتال الذاتي؟
الفلسطينيون لا يحتاجون لمزيد من الخطب، بل لقرارات شجاعة تنهي الانقسام فوراً، توحّد المؤسسات، تحرّر القرار من الحسابات الحزبية، وتعيد الاعتبار للقضية الوطنية بعيداً عن الاستثمار السياسي الرخيص. نريد نظاماً سياسياً يعيد الكرامة للفلسطيني، لا يضاعف وجعه. نريد نخباً مثقفة تمتلك شجاعة النقد الذاتي لا أبواق دعاية رخيصة.
إذا كنا نحن من يهدم بيته بيديه، فكيف نلوم العدو؟ إذا كنا نكفّن أحلامنا بالكراهية، فكيف نُطالب العالم بالعدالة؟ لقد آن الأوان لثورة فلسطينية جديدة، لا بالسلاح، بل بالعقل. ثورة تعلن أن العدو الأول هو الانقسام، وأن الطريق إلى التحرر تمر أولاً من شوارعنا، من مدارسنا، من مجالسنا، من أنفسنا.
لقد خسرنا ما يكفي، وربما أكثر مما يحتمل شعب. فلنتوقف عن تدمير بعضنا، قبل أن نصحو على وطن لا مكان لنا فيه، لأننا نحن من دفنّه.