الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 3:55 AM
الظهر 12:42 PM
العصر 4:22 PM
المغرب 7:54 PM
العشاء 9:27 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

قنابل الشيكل (2): هل المواطن وحده من يتحمّل التبعات؟

الكاتب: الدكتور سعيد صبري- مستشار اقتصادي-عضو مجلس إدارة هيئة التحول الرقمي الدولية - دبي

في مقالي السابق الذي نُشر على صفحات جريدة القدس بتاريخ 28 أيار 2025، تحت عنوان "قنابل الشيكل: متى تنفجر أزمة النقد في البنوك الفلسطينية؟"، تناولت ملامح الأزمة المتصاعدة نتيجة تكدس العملة الإسرائيلية (الشيكل) في البنوك الفلسطينية، وانعكاساتها على الدورة النقدية والقطاع المصرفي.

واليوم، ومع تفاقم الأزمة وصدور تعليمات جديدة من سلطة النقد، يتجدد السؤال بصيغة أكثر وضوحًا وجرأة: هل المواطن الفلسطيني هو فعلاً من يتحمّل وحده تبعات هذه الأزمة؟

غالبًا ما يُلقى باللوم على المواطن بزعم أنه يرفض استخدام المحافظ الرقمية ويتمسّك بالتعامل النقدي، لكن هذا التوصيف يختزل المشهد المعقد ويضع عبء الانهيار المالي على الطرف الأضعف في المعادلة، متجاهلًا الواقع العملي الذي يعيشه الناس في ظل نظام مصرفي لم يُبنَ على الثقة المتبادلة، بل على سياسة الإلزام من جهة، والإقصاء من جهة أخرى.

المواطن لا يرفض الحداثة المالية، بل يرفض بيئة مالية لا تقدّم له الحماية ولا الشفافية. لا توجد حتى الآن حملة وطنية توعوية ممنهجة تشجّع المواطن على استخدام المحافظ الإلكترونية، ولا نظام مكافآت أو إعفاءات يغري التاجر أو المستهلك بتبنّي هذه الأدوات. والأسوأ من ذلك، أن المواطن يجد نفسه يُثقل برسوم خدمات تقليدية، كمثل ما يحدث مع رسوم الشيكات المرتفعة التي تفرضها البنوك على المعاملات الورقية، دون تقديم بديل رقمي حقيقي يُشجّع على التحول، فيتضاعف التردد وتترسّخ الفجوة.

وإلى جانب الرسوم المفروضة على الشيكات العادية، يُعاني المواطن الفلسطيني من تعقيدات وعبء مالي ناتج عن الشيكات المعادة، والتي أصبحت خلال الأشهر الماضية ظاهرة متكررة نتيجة خلل في تدفق السيولة من جهة، وضعف الثقة في التزام العملاء من جهة أخرى. وعوضًا عن قيام البنوك بتطوير آليات إنذار مبكر أو أدوات مرنة للتعامل مع هذه الحالات، لجأت إلى فرض رسوم مرتفعة وغير موحدة على الشيكات المرتجعة، الأمر الذي زاد من الضغوط على الأفراد والشركات الصغيرة، وفاقم من توتر العلاقة مع النظام المصرفي.

هذه الرسوم لم تكن مجرد عبء مالي، بل تحوّلت إلى أداة عقاب غير مباشرة في بيئة اقتصادية تتسم أصلًا بعدم الاستقرار. المواطن الذي يتلقى إشعارًا بإرجاع شيك بقيمة محدودة، يجد نفسه مطالبًا بسداد عمولات تتجاوز أحيانًا قدرة نشاطه، مما يُشعره بأن العلاقة مع البنك ليست شراكة بل عقوبة مالية مؤسسية. هذا الواقع، بدلاً من أن يدفع المواطن نحو الاعتماد على النظام المالي، يجعله ينكفئ على النقد الورقي أكثر فأكثر، هروبًا من دائرة الرسوم والخصومات والعقوبات غير المتوقعة.

ومن جانب آخر، فإن البنوك الفلسطينية لم تكن بمنأى عن الأسباب الجوهرية للأزمة، بل هي طرف أساسي فيها. فبالرغم من الاستثمار العالي للبنوك في مجال الأتمتة الرقمية، إلا أن هذه الاستثمارات لم تُترجم إلى أدوات فعالة على مستوى سلوك المستهلك أو ثقافة السوق . فقد بقيت معظم الخدمات الرقمية محصورة في النطاق البنكي دون تحفيز حقيقي للمواطن والتاجر على استخدامها، سواء عبر التوعية أو الثقة أو الحوافز... تشير الإحصائيات إلى أن ودائع الشيكل في البنوك تشكل حوالي 35% من إجمالي الودائع المصرفية، أي ما يقارب 22 مليار شيكل. ورغم أن النسبة النظامية المطلوبة للاحتفاظ بها نقدًا هي 4% فقط، أي نحو 880 مليون شيكل، فإن البنوك اليوم تحتفظ فعليًا بأكثر من 12 مليار شيكل نقدًا في خزائنها بسبب تعذر تحويل هذه الأموال إلى الجانب الإسرائيلي.

هذا التكدس لا يمثل فقط أزمة نقدية، بل يُعدّ تجميدًا لموارد مالية هائلة كان يمكن استثمارها في دعم المشاريع الصغيرة أو تمويل التنمية المحلية. كما أن تكاليف التخزين والتأمين باتت تُثقل كاهل البنوك نفسها، ناهيك عن الاختناق في السيولة التشغيلية اللازمة لتسيير المعاملات اليومية.
 لكن ما يثير التساؤل هنا: هل فعلاً تفاجأت البنوك بهذه الأزمة؟ ولماذا لم تكن هناك خطط استباقية؟ أين كانت الاستراتيجية المصرفية لتوسيع أدوات الدفع الإلكتروني؟ ولماذا لم تُبنَ علاقة ثقة حقيقية مع المواطن؟ بدلًا من ذلك، كانت العلاقة قائمة على فرض الرسوم، تغييب الحوافز، وتأجيل التغيير حتى انفجرت الأزمة.

وفي محاولة لتدارك الموقف، أصدرت سلطة النقد الفلسطينية سلسلة من التعليمات في الفترة الأخيرة، شملت تحديد سقوف للإيداع النقدي بالشيكل، وتشجيع التحول نحو أدوات الدفع الرقمية، والتنسيق مع الغرف التجاريه، والشركات الكبرى لتدوير السيولة داخليًا. ورغم أهمية هذه الخطوات، إلا أن السياق العام ما زال يفتقر إلى خطة إصلاح وطني حقيقية تربط المواطن، التاجر، البنك، والمؤسسة الرسمية في منظومة واحدة.

ما نحتاجه ليس تحميل اللوم، بل بناء ثقة جديدة. هذه الثقة تبدأ من إعادة تعريف العلاقة بين النظام المالي والمواطن، لا من بوابة الرسوم والقيود، بل من باب الشراكة والشفافية والتحفيز. على سبيل المثال، يمكن تطوير منصة وطنية للمقاصة الداخلية بالشيكل، تُتيح تداولًا ماليًا إلكترونيًا آمنًا بين المؤسسات والمواطنين، بعيدًا عن التكدس النقدي والتبعية لنظام التحويل الإسرائيلي. كما أن ربط المحافظ الرقمية بالخدمات العامة مثل الصحة والتعليم والبلديات يمكن أن يُحوّلها من مجرد وسيلة تقنية إلى أداة معيشية حيوية.

ختامًا، لا يمكن للمشهد المالي الفلسطيني أن يتماسك إذا استمرت مؤسساته في التعامل مع المواطن بوصفه عبئًا أو متهمًا. إن تجاوز أزمة الشيكل يتطلب تحولًا ذهنيًا قبل أن يكون تقنيًا، واعترافًا بأن المواطن لا يجب أن يُحاسَب على أزمة لم يصنعها، بل دُفع ثمنها بصمت لسنوات.

لقد حان وقت الانتقال من الاتهام إلى الإصلاح، ومن رد الفعل إلى المبادرة، ومن إدارة أزمة متفاقمة، إلى بناء نظام مالي فلسطيني أكثر توازنًا، وعدلًا، وابتكارًا.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...