التحرر يبدأ من الثقافة

الكاتب: رامي مهداوي
تمر فلسطين اليوم بمرحلة حرجة لا تقل خطورة عن أخطر محطات تاريخها الحديث. فمنذ نكبة 1948 حتى يومنا هذا، لم تعرف فلسطين إلا طموحًا يلاحقه الاحتلال والقمع والانقسام، لكنها اليوم أمام مفترق طرق لا يتعلق فقط بمصير الأرض والحدود، بل بمصير الإنسان الفلسطيني ذاته: كيف يفكر؟ وكيف يرى العالم؟ وأي ثقافة يحتضنها ليبني مستقبله؟
في عمق المشهد الفلسطيني، نكتشف أن المأزق ليس سياسيًا فقط، بل ثقافيًا بامتياز. فسنوات الاحتلال وما أنتجه من قهر يومي، إلى جانب الانقسام الداخلي المدمر، عطلت أي مشروع نهضوي فكري حقيقي، وسمحت لثقافات تقليدية بالترسخ في المجتمع، ثقافات تعزز الانغلاق، وتحارب العقل النقدي، وتغذي قيم الإقصاء والتعصب. ولعل أخطر ما في هذا الواقع أن هذه الثقافة أصبحت في كثير من الأحيان ملاذًا نفسيًا لفلسطينيين يعانون تحت الاحتلال، لكنها في الحقيقة صارت سجنًا آخر يُضاف إلى سجن الاحتلال المادي.
إن من يتأمل تحولات المنطقة العربية يدرك أن المأساة الفلسطينية ليست معزولة عن السياق الأوسع. فالمنطقة بأسرها عاشت عقودًا من التراجع بعد أن أُجهضت مشاريع التنوير وحل محلها صعود قوى أصولية وسياسات استبدادية كرست التشرذم والانقسام، وأنتجت ثقافات تقوم على إقصاء الآخر، واحتكار الحقيقة، ورفض التعددية. فلسطين، بطبيعة حالها وموقعها في قلب هذه الجغرافيا المأزومة، دفعت ثمن هذا التراجع أضعافًا مضاعفة، ووجدت نفسها عالقة بين قهر الاحتلال وجمود ثقافة لم تعد قادرة على فهم تحديات العصر.
لقد كان المشروع الوطني الفلسطيني، كما صاغته النخبة منذ منتصف القرن العشرين، يحمل في جوهره حلم الدولة المدنية الديمقراطية التي تنهض على قيم المواطنة والعقلانية. غير أن هذا المشروع تراجع مع صعود ثقافات الهويات المغلقة، سواء بفعل عوامل خارجية كالاحتلال أو بفعل خيارات داخلية خاطئة سمحت بتحالفات سياسية مع قوى تقليدية أضعفت المشروع المدني. والنتيجة: جيل فلسطيني شاب يعيش تمزق الهوية بين ثقافة حديثة يتعرض لها يوميًا عبر وسائل التكنولوجيا، وثقافة تقليدية تقيد طموحه، وتمنعه من المشاركة الفعلية في صياغة مستقبله.
والسؤال الجوهري هنا: كيف نبني البديل؟ البعض يراهن على الفكر، على استيراد نظريات جاهزة أو أيديولوجيات من الخارج. لكن التجربة التاريخية، ليس في فلسطين فقط بل في المنطقة العربية عمومًا، علمتنا أن الفكر وحده، بمعزل عن بيئة ثقافية حاضنة، لا يصنع التغيير. ما تحتاجه فلسطين هو تحديث ثقافي حقيقي، تحديث يعيد الاعتبار للعقل، ويطلق طاقات الإبداع، ويحتضن التعددية، ويحرر الدين من الاستخدام السياسي، ويمنح المرأة دورها الكامل في بناء المجتمع.
هذا التحديث الثقافي ليس ترفًا فكريًا، بل هو شرط وجودي لبقاء فلسطين، دولةً وشعبًا. فلا مقاومة ناجحة بلا ثقافة تحررية، ولا اقتصاد قوي بلا ثقافة مدنية، ولا دولة عصرية بلا ثقافة تتبنى قيم الحرية والانفتاح والحق في الاختلاف. ومن دون هذا التغيير، سنظل ندور في حلقة مفرغة: مقاومة مشروعة لكن محاصرة، تنمية اقتصادية لكنها هشّة، وسياسات عامة لكنها عاجزة عن الوصول إلى المواطن.
إن جيل الشباب الفلسطيني اليوم، رغم كل القيود، بات أكثر انفتاحًا على العالم، وأكثر قدرة على الحلم بتغيير واقعه. لكنه بحاجة إلى نخبة شجاعة تقود مشروع التحديث الثقافي، نخبة لا تخشى المواجهة مع الجمود، ولا تتردد في طرح الأسئلة الكبرى: أي فلسطين نريد؟ أي مجتمع؟ أي دولة؟ وأي ثقافة؟
الفرصة ما زالت قائمة. فلسطين تملك من التاريخ والإنسان ما يؤهلها لتكون نموذجًا عربيًا في القدرة على الجمع بين الأصالة والحداثة. لكن ذلك يتطلب شجاعة فكرية وسياسية وأخلاقية: شجاعة في نقد الذات قبل نقد الآخر، شجاعة في إعادة بناء الثقافة الفلسطينية على أسس عقلانية ومدنية وإنسانية. فهل نملك هذه الشجاعة، قبل أن تضيع الفرصة الأخيرة؟