الدفع الإلكتروني في فلسطين: بديل رقمي استراتيجي في ظل أزمة الشيكل

الكاتب: المهندس عبد الرؤوف الشرباتي
تواجه فلسطين منذ سنوات تحديًا ماليًا مزمنًا يتمثل في الارتهان لعملة الشيكل الإسرائيلي، المفروضة بموجب اتفاقية باريس الاقتصادية لعام 1994، والتي حرمت الفلسطينيين من امتلاك سياسة مالية مستقلة. وفي ظل الأزمات المتكررة التي تصيب القطاع المالي الفلسطيني، خاصة في أوقات التصعيد أو الحصار، تتجدد الحاجة إلى أدوات بديلة تضمن استمرارية النشاط الاقتصادي.شؤ
ومن بين هذه الأدوات، يبرز الدفع الإلكتروني كحل رقمي واعد، قادر على التخفيف من تداعيات أزمة الشيكل، وتعزيز الشمول المالي.
واقع الأزمة المالية وتبعات الاعتماد على الشيكل
رغم نمو القطاع المصرفي في فلسطين، إلا أن الاقتصاد الفلسطيني يواجه أزمة نقدية مركبة، جوهرها الاعتماد على الشيكل الإسرائيلي كعملة رئيسية للتداول، دون قدرة على التحكم في تدفقاتها أو تحويلها إلى عملات أخرى،
هذه الأزمة تفاقمت نتيجة تراكم كميات كبيرة من عملة الشيكل داخل البنوك الفلسطينية، حيث لا تستطيع هذه البنوك تحويلها إلى البنوك الاسرائيلية بسبب رفضها استقبال أموال من نظيراتها الفلسطينية لادعاءات سياسية أو قانونية، الامر الذي يشكل عبئاً ماليا على البنوك الفلسطينية ويقيد قدرتها على تمويل التجارة والاستيراد. كرد فعل، عملت البنوك الفلسطينية على تقييد استقبال المزيد من عملة الشيكل من الجمهور، تفاديًا لتفاقم الأزمة وتضخم الكتلة النقدية غير القابلة للتصريف.
وفي ظل هذا الواقع، يبقى الاقتصاد الفلسطيني معرضًا دائمًا لهزات ناجمة عن تعسف الاحتلال الإسرائيلي أو عن صدامات إقليمية لا يمكن مواجهتها بسياسات مستقلة. وهذا يدفع نحو البحث عن بدائل رقمية مرنة تُقلّص الاعتماد على النقد وتُوفر سيولة أكثر استقرارًا.
البنية الرقمية الفلسطينية – أرضية جاهزة للانطلاق
تشير البيانات الحديثة إلى أن البيئة الرقمية الفلسطينية مؤهلة لتبني حلول الدفع الإلكتروني حيث بلغ عدد مستخدمي الإنترنت في 2025 نحو 4.8 مليون شخص (86.6٪ من السكان) و تجاوز عدد اشتراكات الهواتف المحمولة4.41 مليون (79.7٪ من السكان).
هذا الانتشار الواسع للهواتف الذكية والإنترنت يمهّد الطريق أمام رقمنة التعاملات المالية، خاصة من خلال المحافظ الرقمية، والدفع بالبطاقات، والتطبيقات البنكية.
الدفع الإلكتروني كبديل عملي ومستدام
في ظل أزمة السيولة النقدية وتقييد حركة الأموال داخل الأراضي الفلسطينية، يبرز الدفع الإلكتروني كخيار واقعي للتخفيف من آثار الاعتماد على العملة الورقية، وخاصة الشيكل الإسرائيلي. ويُعَد هذا التوجه أكثر من مجرد تقنية مالية؛ بل يمثل بنية بديلة لمنظومة الدفع النقدي، تفتح آفاقًا جديدة أمام الأفراد والقطاعات الاقتصادية للتعامل بمرونة أكبر، خاصة في أوقات الحصار أو تعطل الخدمات المصرفية.
من أبرز أدوات هذا التحول هي المحافظ الإلكترونية، التي انتشرت بشكل لافت في السنوات الأخيرة، خاصة في قطاع غزة. حيث بلغ عدد المستخدمين النشطين للمحافظ الرقمية في قطاع غزة نتيجة لتدمير 98% من فروع البنوك المصرفية أكثر من 530 ألف مستخدم حتى مطلع عام 2025، برصيد تراكمي تجاوز 40 مليون دولار. هذه المحافظ، مثل " Reflect" و"PalPay" وغيرها، باتت تُستخدم لتسديد الفواتير وشراء السلع والخدمات، واستلام التحويلات النقدية، سواء من الداخل أو من جهات دولية. واللافت ان البيانات تُظهر أن فئتي النساء والشباب العاطلين عن العمل هم الأكثر استفادة من هذه الأدوات التي لا تتطلب حسابًا مصرفيًا تقليديًا.
بموازاة ذلك، حافظت بطاقات الدفع المصرفي على دورها، حيث أظهرت إحصائيات سلطة النقد أن نحو 1.6 مليون بطاقة كانت مفعّلة في السوق الفلسطيني حتى نهاية عام 2022. شكلت بطاقات الدفع المباشر (Debit Cards) نسبة تقارب 80.6٪، في حين لا تتجاوز بطاقات الائتمان (Credit Cards) نسبة 5.9٪، ما يعكس اعتمادًا أكبر على أدوات الدفع المربوطة مباشرة بالحساب الجاري.
وفي إطار تعزيز البنية الرقمية، طورت سلطة النقد الفلسطينية منصة E‑Sadad، التي تمكّن المواطنين من تسديد فواتير العديد من الخدمات إلكترونيًا باستخدام التطبيقات البنكية، مما يوفر وقت وجهد المواطنين، إلى جانب ذلك أطلقت سلطة النقد أيضا نظام الدفع الفوري iBuraq، والذي يُعد من الخطوات المتقدمة في ربط الحسابات البنكية والمحافظ الإلكترونية بآلية تحويل فوري تغني عن الإجراءات الورقية المعقدة.
الحلول الرقمية الممكنة لتعزيز الدفع الإلكتروني
مع تصاعد أهمية التحول الرقمي، تبرز أمامنا فرص ملموسة لتطوير منظومة دفع إلكتروني متكاملة. أحد أبرز هذه الفرص يتمثل في تعميم استخدام رمز الاستجابة السريعةQR للدفع، وذلك من خلال تطوير معيار موحد يسمح للتجار والمستخدمين بإتمام المعاملات بسهولة عبر الهاتف المحمول دون الحاجة إلى أجهزة نقاط بيع تقليدية. هذا التوجه يمكن أن يتيح للفلسطينيين تجاوز محدودية البنية المصرفية التقليدية، خاصة في المناطق المحاصرة أو الريفية.
وفي السياق ذاته، يجب ألا تُغفل أهمية نشر الثقافة المالية الرقمية لدى المواطنين. فتعميم الدفع الإلكتروني يتطلب من المواطن الثقة بالتقنيات الحديثة، وفهم آليات استخدامها. لذلك، من المهم أن تُطلق المؤسسات المعنية ولاسيما سلطة النقد الفلسطينية حملات توعية لتأهيل شرائح المجتمع لاستخدام هذه الحلول الرقمية بأمان وفعالية.
التحديات التي يجب تجاوزها
رغم الإمكانات الواعدة، لا تزال هناك تحديات كبيرة تحول دون تحقيق تحول رقمي شامل في فلسطين. من أبرزها القصور في الإطار التشريعي والتنظيمي المتعلق بالخدمات المالية الرقمية. فرغم وجود بعض القوانين والتعليمات الصادرة عن سلطة النقد الفلسطينية، إلا أن البيئة القانونية لا تزال غير مكتملة من حيث حماية بيانات المستخدم، وضمان الشفافية، وإدارة أسعار صرف العملات وتنظيم العلاقة بين مزودي الخدمات والعملاء.
كما أن مستوى الثقة العامة في النظام الرقمي المالي ما يزال منخفضًا، نتيجة المخاوف من القرصنة أو فقدان الأموال، إضافة إلى محدودية تجربة المستخدم مع التكنولوجيا المالية. هذه الفجوة تتطلب تعزيز قدرات الأمن السيبراني وحوكمة تكنولوجيا المعلومات في القطاع المالي، إلى جانب إدارة استمرارية الاعمال وتوفير قنوات دعم فني للمستخدمين، وهي أمور بالغة الأهمية في أنظمة الدفع.
التحدي الأكبر يتمثل في التهديدات السياسية والأمنية، إذ إن البنية الرقمية الفلسطينية عرضة للاستهداف أو التعطيل من قبل الاحتلال الإسرائيلي، خاصة في أوقات الأزمات، ما يضعف قدرة هذه الحلول على الاستمرارية دون دعم دولي تقني.
كما ان القيود على الوصول إلى الأنظمة المصرفية العالمية، مثل حرمان الفلسطينيين من خدمات PayPal أو تعقيد إجراءات التحويلات الدولية، تُقيد إمكانيات التكامل مع الاقتصاد الرقمي العالمي. وهو ما يتطلب جهودًا دبلوماسية واقتصادية للضغط على المنصات الدولية لفتح المجال أمام المستخدم الفلسطيني أسوة بغيره من الشعوب.
الدفع الإلكتروني لم يعد رفاهية، بل أصبح ضرورة وطنية لبناء اقتصاد أكثر مرونة واستقلالية. ففي ظل الأزمات المتكررة التي تعصف بالاقتصاد الفلسطيني، خاصة تلك المرتبطة بالسيولة النقدية والتبعية للشيكل الإسرائيلي، بات من الضروري تطوير بنية تحتية رقمية متماسكة تُمهّد لنظام مالي أكثر مرونة وأكثر انسجاما مع متطلبات العصر الرقمي.
ومع توافر البنية الرقمية الأساسية، وانتشار استخدام الإنترنت والهواتف الذكية، فإن الاستثمار في أنظمة الدفع الإلكتروني، وتطوير تشريعاتها، وتوسيع نطاق استخدامها، يمثل خطوة استراتيجية نحو تحقيق الشمول المالي، إلا أن نجاح هذا التحول يتطلب تضافر الجهود بين القطاعين العام والخاص، ودعم المؤسسات الدولية، ومشاركة المواطن الفلسطيني في تبني وتطوير هذه الأدوات.