أميركا تُمسك بمفاتيح الإبادة وإعادة الإعمار، ما الذي يُراد لغزة ولنا؟

في زيارة لم تتجاوز خمس ساعات، دخل المبعوث الأميركي ويتكوف إلى غزة وخرج منها محملا برسائل لا يمكن تجاهل دلالاتها. المفاجأة لم تكن في قصر مدة الزيارة، بل في مضمون التصريح الذي أدلى به بعدها، حين أعلن بصفاقة، "لا توجد مجاعة في غزة."
جاء هذا التصريح وغيره من تصريحات رئيس مجلس النواب جونسون والسفير الأمريكي هاكابي في توقيت ومضمون يبدوان كتمهيد مقصود لمرحلة جديدة من إدارة عدوان التطهير العرقي، لا تقف عند حدود نفي الكارثة الإنسانية، بل تتجاوزها نحو فرض تسوية قسرية تحت وقع التجويع والإبادة، تسوية تنفي الحقوق الوطنية لشعبنا الأصلاني على هذه الارض، وهي من النوع الذي فشلت الولايات المتحدة في فرض مثيل له بعد حروبها المتوحشة في مناطق أخرى من العالم.
اليوم، تتسرب من خلف الكواليس تفاصيل خطة أميركية–إسرائيلية شاملة تقوم على الإفراج دفعة واحدة عن الأسرى الإسرائيليين، نزع سلاح حماس ووضع القطاع تحت إدارة دولية–عربية، بقيادة أميركية مباشرة.
ليست هذه "مبادرة" بالمعنى التقليدي، بل هي تحوّل نوعي في الدور الأميركي، من "وسيط مزعوم" إلى "عرّاب" مباشر يفرض معادلة جديدة بالقوة، ويتحكم بمفاتيح ما يُسمى "اليوم التالي للحرب".
من إدارة العدوان إلى هندسة "ما بعده
ما يُطرح اليوم ليس مجرد إطار لحل مؤقت، بل مشروع متكامل لإعادة تشكيل غزة سياسيا وأمنيا وإنسانيا، من خلال التخطيط ايضا والتهديد باحتلال غزة كاملة. تريد الولايات المتحدة الانتقال من دور الداعم لعدوان المحرقة، إلى منسّق رئيسي لعملية إعادة الإعمار، مع تقزيم أدوار الأطراف الإقليمية والدولية إلى مجرد منفذين أو ممولين.
المشهد يُدار من البيت الأبيض مباشرة، وأي مفاوضات قادمة لن تكون مع تل أبيب وحدها، بل مع واشنطن التي تتعامل مع غزة وكأنها "منطقة تحتاج لإدارة أمنية وإنسانية"، وليس جزءًا من أرض فلسطينية محتلة يجب إنهاء احتلالها وإقامة الدولة الفلسطينية عليها، وهو أمر تناهضه الولايات المتحدة بالأساس.
والمفارقة أن هذا المسار الأميركي يتقاطع عكسيا مع إعلان فرنسا وبريطانيا عزمهما الاعتراف بالدولة الفلسطينية في أيلول المقبل، في خطوة تبقى رمزية سياسية ما لم تُرفق بضغط دولي حقيقي لإنهاء الاحتلال، رغم أهميتها.
حماس والتمسك بالسلاح، بين المبدأ والمأزق
من جانبها، رفضت حماس شروط المقترح، وأعلنت أنها لن تتخلى عن سلاحها ما لم تُقام الدولة الفلسطينية، مستندة إلى القانون الدولي الذي يكفل حق مقاومة الاحتلال.
موقف يُعبّر عن تمسّك بالخيار المُقاوم، رغم ان المقاومة ليست خيارا عسكريا فقط، لكنه في الوقت نفسه لا يخلو من تعقيد سياسي وإنساني، خاصة في ظل كارثة متفاقمة، ومساعٍ أميركية–إسرائيلية لاستثمار المأساة في فرض معادلة استسلام مغلّفة.
وتزداد الصورة غموضا مع الدور الذي يلعبه التنظيم الدولي للإخوان المسلمين من خلال بعض الدول الإقليمية والجماعات التابعة، بما قد يترك تأثيرات غامضة على القرار السياسي للحركة.
الإعمار بوابة التفكيك
الخطورة لا تكمن فقط في تفاصيل الخطة، بل في جوهرها، مشروع لإعادة إعمار غزة على أنقاض الحق الفلسطيني، خارج إطار التمثيل الشرعي، وبشروط تُقصي منظمة التحرير وتسلم القطاع لإدارة وظيفية لا تمتلك السيادة، مفصلة على مقاس السياسات الأميركية والإسرائيلية.
ما يجري هو تفكيك ممنهج للقضية الوطنية الفلسطينية التحررية، وتحويل غزة إلى ملف إغاثي– أمني، منفصل عن السياق الوطني العام.
منظمة التحرير بين التهميش والتصفية
رغم أنها لا تزال الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، يجري تجاوز منظمة التحرير عمدا في كل السيناريوهات الأميركية، بالاستفادة من ترهّل أدائها وتغيب دورها لحساب السلطة الوطنية كإطار إداري أمني نشأ في سياق اتفاقيات أوسلو.
ويجري الدفع من جانب الأمريكية وبعض الأوروبيين والعرب باتجاه خلق بدائل "وظيفية" تضمن الاستقرار الأمني لإسرائيل، وتُقدم للغرب كواجهات تفاوضية محلية قابلة لتطبيق المشروع الأميركي–الإسرائيلي، بما في ذلك احتمال تعيين قيادات من خارج الشرعية الوطنية النضالية، في الضفة أو غزة، استعدادا لمرحلة مفصلة سياسيا على مقاس الاحتلال.
لكن هذه البدائل، إن وجدت، لن تنتج حلاً وطنياً بالطبع، بل ستُعمق الانقسام، وتفتح أبوابا لحروب داخلية تضعف القضية وتُطيل أمد المأساة.
ما بين الرفض والاستنهاض
الخطة الأميركية ليست مجرد مبادرة، بل مشروع تصفية سياسي يستثمر في الدم والدمار لبناء واقع جديد، لا مكان فيه للحقوق السياسية الفلسطينية أو للمشروع الوطني التحرري.
ومواجهتها لا تكون بالرفض اللفظي أو الصمت، بل بإعادة بناء الموقف الفلسطيني على أساس وحدة المشروع الوطني التحرري، واستعادة دور منظمة التحرير كجبهة وطنية عريضة، من خلال عملية ديمقراطية حقيقية، تضع قيادة الكفاح الفلسطيني في موقعها الطبيعي تحمل راية التحرر الوطني بثبات.
ما تُريده أميركا لغزة، ولنا نحن الكل الفلسطيني، ليس مجرد "ترتيب إداري"، بل شطب للحق والذاكرة والنضال والهوية الوطنية.
وهذا ما يتوجب مواجهته بمسؤولية وطنية تشاركية عالية، تبدأ بحوار وطني شامل يضم كل مكونات شعبنا الوطنية، من أجل بناء استراتيجية صمود ومقاومة سياسية وشعبية شاملة، تحدد الرؤية، وتضع البرامج، وتوفّر الأدوات، بعيدا عن سياسات استمرار الرهان على الدور الامريكي أو الانتظار أو الهروب إلى الأمام دون حلول حقيقية لأزمات النظام السياسي الفلسطيني وضرورات المواجهة بالعقلانية السياسية الثورية بعيدا عن الترويج لقبول سياسات الأمر الواقع وكأنها دون بديل.
إنها لحظة القرار الوطني المستقل، لحظة الدفاع عن الكرامة والحق والمستقبل.