احتلال القطاع: رهان نتنياهو بين النصر الرمزي والسقوط في المستنقع

الكاتب: نبهان خريشة
الجدل الذي كان يدور في إسرائيل حول نية بنيامين نتنياهو احتلال ما تبقى من قطاع غزة، (مدينة غزة والمخيمات الوسطى)، حُسم الخميس الماضي بقرار رسمي إتخذه الكابينت الأمني بالمضي نحو تنفيذ العملية، ليعيد إلى الأذهان الجدل الذي دار بعد أشهر قليلة على بدء الحرب على غزة بشأن اقتحام مدينة رفح جنوب القطاع. حينها، ورغم التحذيرات الواسعة والتخوفات العلنية من تبعات الخطوة، مضى نتنياهو في القرار مدفوعًا بالقناعة بأن "الهدف الاستراتيجي" يبرر المخاطر. واليوم، يكرر المشهد نفسه ولكن على نطاق أوسع، وبتكلفة بشرية وعسكرية يُتوقع أن تكون أكبر، بحسب تحذيرات المؤسسة العسكرية.
إن احتلال قطاع غزة بالكامل يعني الانتقال من نمط العمليات العسكرية المحدودة، التي تقوم على الدخول المؤقت إلى مناطق محددة لتحقيق أهداف عسكرية ثم الانسحاب منها، إلى نمط السيطرة الشاملة والمستمرة على كامل الجغرافيا. هذا النمط يفرض بقاء القوات الإسرائيلية متمركزة في المدن والمخيمات والطرق الرئيسية، مع إقامة نقاط تفتيش وقواعد ثابتة، وإدارة أمنية يومية للوضع الميداني.
كما يتطلب احتلال كامل القطاع تشكيل إدارة عسكرية ذات طابع مدني تتولى تنظيم شؤون الحياة للسكان، وتسيير بعض الخدمات الأساسية، لكن في إطار السيطرة الأمنية الكاملة. مثل هذا الاحتلال لا يعني فقط تغيير طبيعة المعركة، بل أيضًا الدخول في مسؤوليات معقدة تتعلق بإدارة أكثر من مليوني إنسان، وسط بيئة معادية وواقع إنساني متدهور، وهو ما يحوّله من عملية عسكرية إلى عبء سياسي وأمني طويل الأمد.
إن المقارنة بين ما حدث في رفح وما يجري الآن ليست مجرد إسقاط عابر، بل تعكس طريقة اتخاذ القرار في إسرائيل تحت قيادة نتنياهو، حيث يغلب على الحسابات الطابع السياسي والشخصي على حساب التقديرات العسكرية البحتة. ففي قضية إجتياح رفح، تم تجاوز تحذيرات رئيس الأركان آنذاك، واليوم يتكرر الأمر مع رئيس الأركان الجديد إيال زمير، الذي كشفت التسريبات الإعلامية أنه حذّر من أن المضي نحو احتلال غزة بالكامل قد يكون "فخًا محكمًا"، لكن نتنياهو لم يعر تلك التحذيرات اهتمامًا.
إن الدوافع التي تجعل نتنياهو يتبنى هذا المسار واضحة: إنقاذ نفسه سياسيا. فمع تصاعد الانتقادات من أهالي الأسرى والمعارضة وقيادات أمنية سابقة، يراهن على أن السيطرة على مدينة غزة – المعقل لحركة حماس كما يصوره – ستُسوَّق داخليًا على أنها "تحقيق للنصر" و"تصفية للحكم الحمساوي"، حتى وإن لم تحقق الأهداف المعلنة عسكريًا أو أمنيًا. بالنسبة له، القيمة الرمزية لهذا الاحتلال ستشكل ورقة ضغط في أي مفاوضات لاحقة، فضلًا عن كونها أداة لتلميع صورته أمام الناخبين.
لكن المؤسسة العسكرية ترى المشهد من زاوية أخرى. فالعملية تعني التوغل في أكثر مناطق القطاع كثافة سكانية وأشدها تعقيدًا من الناحية الميدانية، حيث ما تبقى من البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية، ما ينذر بمعارك استنزاف طويلة وخسائر متزايدة في الأرواح. كما أن الاحتلال المباشر سيعيد الجيش إلى سيناريوهات المعارك السابقة، لكن وسط حرب مستمرة ودمار واسع النطاق، واحتمال مقتل الأسرى الإسرائيليين أو بعضهم الذين تحتجزهم حماس.
سياسيًا، قد يمنح القرار نتنياهو دفعة شعبية مؤقتة، خصوصًا في الأيام الأولى للعملية، لكنه يحمل خطر الارتداد العكسي إذا طال أمد القتال أو ارتفعت أعداد القتلى من الجنود، أو إذا فشل الجيش في تحقيق نتائج ملموسة. حينها، قد يتحول الإنجاز الموعود إلى عبء سياسي يسرّع من تآكل مكانته، ويعزز خطاب المعارضة التي تتهمه بالمقامرة بمستقبل إسرائيل من أجل بقائه الشخصي.
وعلى صعيد الائتلاف الحاكم، يشكل القرار اختبارًا لتماسكه؛ إذ يسعى نتنياهو لإرضاء اليمين المتطرف المطالب بالحسم الكامل، وفي الوقت ذاته الحفاظ على دعم شركائه الأكثر حذرًا الذين يخشون الغرق في احتلال طويل الأمد. أي إخفاق ميداني قد يفتح الباب أمام تصدعات داخلية، وربما تهديد لبقاء الحكومة نفسها.
دوليًا، قد يفاقم الاحتلال الكامل للقطاع حالة العزلة السياسية لإسرائيل، خاصة إذا رافقته مشاهد دمار واسع أو سقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين، وهو ما قد يدفع بعض الحلفاء الغربيين إلى ممارسة ضغوط علنية أو ضمنية لوقف العمليات. في المقابل، على الساحة الفلسطينية، سيُنظر إلى هذه الخطوة كعودة صريحة لحقبة ما قبل قرار رئيس الوزراء الأسبق آرئيل شارون الإتسحاب أحاديا من قطاع غزة.
وعند بدء التحشيد العسكري على أطراف مدينة غزة والمخيمات الوسطى، تتجه إسرائيل إلى أحد أكثر المسارات كلفة وتعقيدًا، حيث قد تفرض السيطرة الميدانية واقعًا جديدًا دون إنهاء المقاومة، أو تصطدم بمفاجآت ميدانية تعيد خلط الأوراق. وفي الوقت ذاته، فإن التداعيات الإنسانية للقرار تبدو كارثية، إذ يُتوقع ارتفاع أعداد الضحايا بين المدنيين بشكل كبير، إلى جانب طرد نحو مليون فلسطيني باتجاه جنوب القطاع واحتجازهم في معسكرات اعتقال على النمط الألماني في الحرب الحرب العالمية الثانية، وهو ما سيؤدي إلى تفاقم الكارثة الإنسانية، ويزيد من حدة الاحتجاجات الدولية، ويعمق من تدهور صورة إسرائيل في الرأي العام العالمي، ويزيد من عزلتها الدولية على اصعدة مختلفة .
وفي ظل غياب خطة واضحة لليوم التالي، تبدو السيناريوهات مفتوحة على احتمالات متعددة، أبرزها: استمرار الاحتلال المباشر وسط مقاومة مسلحة واستنزاف طويل الأمد، أو الانسحاب بعد تدمير واسع وترك فراغ أمني قد تملؤه قوى فلسطينية جديدة أو فوضى مسلحة، أو القبول بترتيبات دولية أو إقليمية لإدارة القطاع تحت ضغط عسكري وسياسي خارجي، أو الانزلاق نحو مواجهة أوسع مع أطراف إقليمية إذا توسعت دائرة الصراع.
وفي جميع الحالات، فإن ما بعد القرار مرهون بمدى قدرة إسرائيل على تحمّل التكلفة البشرية والسياسية لخطوة قد تتحول سريعًا من ورقة ضغط إلى عبء استراتيجي.