تأثير حركات التضامن مع القضية الفلسطينية، بلا تأثير أم مؤثرة أم تأثير حاسم؟

الكاتب: هاني المصري
كالعادة، تتعدد المقاربات في تقييم الحركات الشعبية وغير الشعبية المتضامنة م القضية الفلسطينية، والرافضة للإبادة الجماعية والتجويع والضم والتهجير.
المقاربة الأولى تقلّل كثيرًا من أهمية هذه التحركات، وكأنها لم تكن، فهي مظاهرات شوارع لا تؤثر على القرارات أما المقاربة الثانية فترى أن دولة الاحتلال جراء المأزق الداخلي والتحركات الشعبية وسقوطها السياسي والأخلاقي في عزلة خانقة وقاب قوسين أو أدنى من الانهيار، وأن النصر الفلسطيني مسألة وقت لا أكثر. بينما هناك مقاربة واقعية تثمّن هذه التحركات، حتى تلك التي تنطلق من داخل دولة الاحتلال نفسها. وهي تؤثر بشكل متزايد حتى على القرارات الصادرة عن الحكومات، فثمة تغيرات جدية في الرأي العام الغربي بدأت تنعكس على بعض السياسات الرسمية، حتى في دول داعمة تقليديًا لإسرائيل مثل فرنسا وكندا وبريطانيا. كما بدأت تظهر بوادر انقسام داخل الحزب الجمهوري الأمريكي، لا سيما في تيار “أمريكا أولًا” المؤيد لترامب، بشأن الدعم المطلق لإسرائيل، وفي بريطانيا الحزب الجديد الذي يشكله جيرمي كوبان سجل في عضويته خلال أيام نحو ٦٥٠الف عضو جزء منهم من حزب العمال الحاكم، وهذا حدث ورقم غير مسبوق.
ورغم أن هذه التحركات لم تنجح حتى الآن في وقف الإبادة والتجويع، إلا أنها تمكنت من دفع صُنّاع القرار في واشنطن وتل أبيب إلى الحرج والتراجع عن الحصار القاتل، الذي بدأ منذ الثاني من آذار الماضي بمنع دخول أي كسرة خبز أو حبة دواء إلى قطاع غزة. ثم جرى بضغط الرأي العام الدولي واستجابة الحكومات السماح بإدخال بعض المساعدات، في البداية بشكل محدود، ثم بشكل أكبر وإن كان ذلك ضمن هندسة ممنهجة تضمن عدم وصول المساعدات إلى مستحقيها.
بل إن ما يُسمى بـ”منظمة غزة اللا إنسانية” كانت أداة من أدوات الحرب، إذ أنشأت أربعة مراكز وزعتها كمصائد موت، ما أدى إلى استشهاد نحو 1500 شخص، وإصابة أضعافهم من الجرحى، أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات. وقد استُخدمت هذه المراكز كتكتيك لبث الفوضى، وتأجيج الصراعات الداخلية، وتشجيع المجرمين والعصابات وتجار الحروب على الاستحواذ على المساعدات.
ولو تخيلنا للحظة أن العالم لم ينتفض نصرةً لفلسطين كما هو حاصل اليوم، فهل كانت الحرب ستأخذ نفس المسار؟ الأرجح أنها كانت ستكون أفظع بكثير. وربما كان احتلال القطاع قد استُكمل، وبدأت عمليات التهجير والاستيطان والضم، ليس في الضفة فحسب، بل في القطاع أيضًا. وهذا يعني أن حركات التضامن لم توقف الحرب، لكنها ساهمت في تقليص قدرة دولة الاحتلال على تحقيق أهدافها بالكامل، وقيّدت يد مجرمي الحرب في واشنطن وتل أبيب، وجعلتهم يحسبون ألف حساب لإحتمال تطور الأمور نحو عقوبات جدية، أو عزلة دولية، أو حتى مقاطعة شاملة لإسرائيل.
تتزايد المؤشرات على امكانية هذا التحول، إذ أعلنت بعض الدول الحليفة لإسرائيل أنها ستعترف بالدولة الفلسطينية في أيلول/سبتمبر القادم، وأوقفت ألمانيا توريد السلاح، وهناك عقوبات جزئية أخرى اتخذت وغيرها قد تتراكم مع الوقت، لا سيما إذا استطاعت المقاومة الصمود وإيقاع خسائر بشرية ملموسة في صفوف القوات المحتلة، وإذا تفاقمت الأزمات الداخلية في إسرائيل أكثر وأكثر، أفقياً وعمودياً.
غير أن كل ذلك يظل مشروطًا بارتقاء الأداء السياسي الفلسطيني عن مستواه الحالي، وتغير الموقف الرسمي العربي وتحوله من المواقف إلى اتخاذ الإجراءات باستخدام عناصر وأوراق القوة العربية في العلاقات مع الدول خصوصا أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وهذا يتطلب رؤية واقعية، وطنية وثورية، بعيدة عن التخاذل والتكيف مع الواقع والوقائع التي يقيمها الاحتلال من جهة، والمغامرة غير المحسوبة والتي تقفز عن الواقع من جهة أخرى. رؤية تقوم على وحدة الهدف، ووحدة الأدوات وأشكال النضال المناسبة لتحقيقه. وإذا تعذرت الوحدة الكاملة، فيمكن تحقيق حدٍّ من الوفاق الوطني والتنسيق والتكامل، بحيث يسير كل فصيل أو كل معسكر منفردًا، لكن يضرب الجميع في الاتجاه نفسه، الذي يجب أن يُفرض واقعًا أو يفترض أن يخلق واقعاً يستجيب للتحديات والمخاطر الوجودية ويوظف الفرص المتاحة، بحكم أن المشروع الصهيوني يستهدف الشعب الفلسطيني بأسره: أرضًا، وقضية، ومؤسسات، وحركات، بما فيها فتح وحماس وكل مكونات المجتمع. فلا مكان في هذا المشروع لأحد من الفلسطينيين، ولا لأي حد من حقوقهم.