الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 4:43 AM
الظهر 12:42 PM
العصر 4:20 PM
المغرب 7:19 PM
العشاء 8:39 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

غزة والاحتلال المستحيل

الكاتب: رامي مهداوي

لا يمكن النظر إلى الدعوات الإسرائيلية لإعادة احتلال قطاع غزة على أنها ردّ فعل انفعالي أو مجرد شعار انتخابي، بل تعكس أزمة بنيوية في التفكير الأمني الإسرائيلي. فمنذ سيطرة حركة "حماس" على القطاع عام 2007، تحوّلت غزة إلى مصدر استنزاف مستمر، سواء عبر الصواريخ أو عبر مشهد المقاومة الشعبية، حتى جاء هجوم 7 أكتوبر 2023 ليكشف هشاشة المنظومة الدفاعية الإسرائيلية أمام الداخل والخارج معاً.

في ظل غياب نظام دولي قادر على فرض التسويات أو ضبط السلوكيات، تعتمد إسرائيل على القوة العسكرية الأحادية لحماية نفسها. ومن هنا يُطرح مشروع إعادة احتلال غزة باعتباره "ضرورة أمنية" لتفكيك بنية حماس وإعادة بناء الردع. غير أن هذا الخيار، رغم منطقيته العسكرية على الورق، يواجه سلسلة من التحديات المعقّدة.

فالجيش الإسرائيلي، على الرغم من تفوقه التكنولوجي، يعاني من إنهاك متزايد. اعتماده الكبير على قوات الاحتياط، وهم في معظمهم من المدنيين، حوّل الحملات المتكررة إلى عبء نفسي واجتماعي، انعكس في ارتفاع معدلات الانسحاب والاضطرابات النفسية بين الجنود. ويزداد المأزق صعوبة لأن الجيش مطالب أيضاً بمواجهة جبهات متزامنة: "حزب الله" في لبنان، النفوذ الإيراني في سوريا، التوتر المتصاعد في الضفة الغربية، وصواريخ اليمن، والصراع الاستراتيجي مع طهران. في هذا السياق، يبدو الاحتلال المباشر لغزة مشروعاً يستنزف قدرات إسرائيل أكثر مما يمنحها استقراراً.

الأمر اللافت أن التحفظات لا تأتي فقط من معارضي الحرب، بل من داخل المؤسسة العسكرية ذاتها. فقد أشار قادة كبار، مثل رئيس الأركان إيال زامير، إلى أن الاحتلال المباشر سيستهلك موارد حيوية ويضعف القدرة على الردع في جبهات أخرى أكثر خطورة. لهذا السبب برز نموذج "الاحتلال الجزئي"، أي السيطرة على محاور استراتيجية ومعابر رئيسية من دون التورط في إدارة الشؤون المدنية. هذه المقاربة قد تقلل الكلفة المباشرة، لكنها تترك فراغات أمنية مرشحة لأن تتحول إلى بؤر فوضى وإعادة تسلح، ما يعني أن التهديد سيستمر وإن اختلفت أشكاله.

التجربة التاريخية بين 1967 و2005 تذكّر إسرائيل جيداً بعواقب الاحتلال الطويل. فرغم السيطرة العسكرية الكاملة آنذاك، لم تنعم إسرائيل بالأمن، بل واجهت انتفاضات متكررة وضغوطاً اقتصادية وسياسية دفعت آرييل شارون في النهاية إلى قرار الانسحاب. تجاهل هذه الدروس اليوم، بدوافع أيديولوجية يمينية، يعكس انفصالاً عن الواقع، ويدفع نحو تكرار أخطاء الماضي بثمن أكبر.

دبلوماسياً، فإن أي تصعيد جديد في غزة يضع إسرائيل أمام عزلة متنامية. دول أوروبية مثل فرنسا وإسبانيا وأيرلندا لمّحت إلى خطوات نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية كرد مباشر على استمرار العمليات العسكرية. ومع تراجع الغطاء السياسي الغربي وتزايد الربط العربي بين التعاون مع إسرائيل وتحقيق تقدم في مسار الدولتين، ينكمش هامش المناورة الإسرائيلي إقليمياً ودولياً.

داخلياً، يقترب المشهد الإسرائيلي من انتخابات 2026 التي يُرجَّح أن تشهد نهاية هيمنة نتنياهو. وهذا يعني أن أي مشروع عسكري واسع قد يفتقر إلى الاستمرارية السياسية، بل قد يتحول إلى ورقة انتخابية ظرفية توظَّف في الصراع الحزبي، بينما يدفع الفلسطينيون ثمن الحسابات الداخلية.

ومع كل هذه الاعتبارات العسكرية والسياسية، يبقى الوجه الإنساني هو الأشد حضوراً في غزة. ملايين المدنيين يعيشون اليوم تحت الحصار والقصف والدمار، بلا ماء كافٍ أو غذاء أو دواء. إعادة احتلال القطاع لن تعني سوى إعادة إنتاج المأساة بأشكال أكثر قسوة، حيث سيُدفع الأطفال والنساء والشيوخ إلى دوامة نزوح متكرر، وستتفاقم الكارثة الإنسانية إلى مستويات غير مسبوقة. هذه الحقيقة تجعل من أي خطاب عن "الأمن" أو "الردع" مجرّد وهم، لأن الأمن الحقيقي لا يُبنى على أنقاض المدن ولا على جثث الأبرياء، بل على سلام عادل وشامل.

في الخلاصة، فإن مشروع إعادة احتلال غزة يبدو أقرب إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر منه إلى استراتيجية مدروسة. فهو يضع إسرائيل بين وهم استعادة الردع واستحالة فرض السيطرة على بيئة مقاومة بطبيعتها. ويبقى السؤال الأهم: كيف يمكن لدولة أن تفرض سيطرتها على أرض ترفضها تاريخياً، من دون أن تُستنزف داخلياً أو تُعزل خارجياً؟ الإجابة حتى الآن غامضة، لكن المؤكد أن كلفتها، إن وُجدت، ستكون باهظة ومؤلمة.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...