المغير: نموذجاً لما تضمره إسرائيل للضفة الغربية

الكاتب: نبهان خريشة
لم يكن مشهد جرافات الاحتلال وهي تقتلع أشجار الزيتون في بلدة المغير قضاء رام الله مجرد حدث عابر في سجل طويل من الانتهاكات اليومية، ولم تكن اقتحامات البيوت الفلسطينية ونهب مدخرات العائلات سوى خطوة إضافية في سلسلة سياسات تهدف إلى تفكيك ما تبقى من صمود الفلسطيني فوق أرضه. ففي تلك البلدة الصغيرة، التي اعتادت أن تستقبل موسم الزيتون كعيد شعبي وذاكرة جماعية، تحولت الحقول إلى أرض مجرّفة والبيوت إلى ساحات للنهب والترويع، في صورة تختصر ما يمكن أن يكون عليه مستقبل الضفة الغربية بأكملها بعد أن تضع حرب غزة أوزارها.
الزيتون في فلسطين ليس مجرد شجرة مثمرة، بل هو ذاكرة عميقة وحكاية أجيال، ورمز لعلاقة الإنسان بأرضه. لهذا السبب تحديداً يستهدفه الاحتلال، لأنه يعرف أن الفلسطيني قد يبني بيته من جديد إذا هُدم، وقد يعيد ترتيب حياته بعد أي خسارة، لكنه حين يُقتلع زيتونه يخسر امتداد الجذور إلى ما قبل قرون، ويخسر جزءاً من هويته وذاكرته الجمعية. اقتلاع آلاف الأشجار في المغير لم يكن مجرد عمل عسكري عابر، بل إعلان مقصود أن المعركة تدور حول الوجود ذاته، حول محو العلاقة بين الفلسطيني وترابه، وإعادة صياغة الأرض لتصبح صفحة بيضاء جاهزة لاستيعاب التوسع الاستيطاني.
ومثلما استُهدفت الأرض، استُهدفت أيضاً بيوت الناس بما تحويه من مدخرات وذكريات. فقد أكد الأهالي أن الجنود الذين اقتحموا منازلهم لم يكتفوا بالتفتيش، بل عمدوا إلى سرقة ما وجدوه من أموال وذهب، في سلوك لا يمكن وصفه إلا بالنهب العلني. الاحتلال يقدم هذه الأفعال باعتبارها "حالات فردية"، لكن تكرارها في أكثر من موقع داخل الضفة وغزة يكشف أنها سياسة مقصودة، تعكس عقلية الغازي الذي يتعامل مع الممتلكات الفلسطينية كغنائم حرب. وهكذا تتكامل عملية التجريف مع النهب: الأولى تقتلع علاقة الناس بالأرض، والثانية تجرّدهم من أي قدرة اقتصادية على البقاء والصمود.
إن النظر إلى ما جرى في المغير لا يمكن أن ينفصل عن الحرب الدائرة في غزة. فالاحتلال يتعامل مع الجغرافيتين باعتبارهما ساحة واحدة، يجرّب في غزة نموذج التدمير الشامل والتهجير الجماعي، ويطبّق في الضفة نموذجاً آخر يقوم على التوسع الاستيطاني والتجريف التدريجي للأرض وإفراغ القرى من مقومات الحياة. وما حدث في المغير ليس سوى نسخة مصغّرة مما قد يشمل الضفة بأكملها: أراضٍ تصادر بذريعة العقاب الجماعي، وبيوت تقتحم وتُنهب، وطرق تُغلق وتُحاصر، حتى تتحول القرى الفلسطينية إلى جزر معزولة محاطة بالمستوطنات والجنود.
وتبدو خطورة المرحلة المقبلة في أن إسرائيل عندما تخرج من حرب غزة ستكون أكثر يمينية وأكثر شراسة. فقد رسخت مشاهد الدمار والقتل في القطاع لدى المجتمع الإسرائيلي استعداداً لتقبل سياسات أكثر قسوة في الضفة. وإذا كانت الحرب قد منحت حكومة نتنياهو وأحزاب اليمين شعوراً بأن اللحظة مواتية لفرض "السيادة الكاملة" على كامل الأرض المحتلة، فإن التجريف في المغير لا يعدو أن يكون مقدمة تمهيدية لضم فعلي يقطع الطريق على أي أفق سياسي. فالأرض التي تُقتلع أشجارها يُمهّد لها أن تُسلّم للمستوطنين، والبيوت التي تُنهب تتحول إلى بيوت مهددة بالرحيل.
الفلسطيني في الضفة اليوم يعيش بين مطرقة الاحتلال وسندان العجز الرسمي الفلسطيني . فالأجهزة الرسمية تكتفي بتوثيق الجرائم وإصدار البيانات، بينما الاحتلال يواصل اعتقال الشباب ومطاردة النشطاء وتوسيع المستوطنات، في وقت تتفاقم فيه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وفي ظل هذا الواقع، يجد المواطن نفسه محاصراً: بلا حماية سياسية حقيقية، وبلا قدرة على الدفاع عن أرضه، ومهدداً في رزقه وكرامته على حد سواء.
إذا جرى التعامل مع المغير كحادثة معزولة فإن الكارثة ستتسع. فما حدث هناك ليس استثناءً، بل هو جرس إنذار. استمرار هذا النمط يعني أن القرى الفلسطينية ستخسر أراضيها الزراعية الواحدة تلو الأخرى، وأن الأسر ستنزف مدخراتها مع كل اقتحام جديد، وأن الشباب سيجدون أنفسهم مضطرين للهجرة أو القبول بالعمل في ظروف قاسية داخل المستوطنات. وهكذا تتحقق استراتيجية الاحتلال ببطء وصمت: تهجير لا يحدث عبر قوافل جماعية كما تعمل عليه إسرائيل في غزة، بل عبر نزيف يومي يحوّل البقاء إلى معركة خاسرة.
وما يزيد خطورة هذا المشهد هو غياب رد الفعل الدولي الجاد. العالم مشغول بغزة إلى حد تجاهل ما يجري في الضفة، والعواصم العربية غارقة في حساباتها الإقليمية، والسلطة الفلسطينية لا تملك أدوات الردع ولا حتى القدرة على حماية المزارعين. النتيجة أن الاحتلال يتحرك بحرية، ويفرض وقائع ميدانية دون أن يلقى مقاومة حقيقية، فيسير مشروعه خطوة خطوة نحو ضم الأرض وتجريد الناس من مقومات وجودهم.
إن المغير ليست مجرد بلدة صغيرة اقتُلعت أشجارها ونُهبت بيوتها. إنها مرآة لمستقبل يراد للضفة الغربية أن تصل إليه بعد أن تضع حرب غزة أوزارها. مستقبل قوامه قرى بلا أراضٍ، ومدن محاصرة بالجدران والمستوطنات، وشعب منهك اقتصادياً ومطارد أمنياً، واحتلال يفرض وقائع جديدة في غياب أي رادع. ولهذا فإن قراءة ما جرى في المغير يجب أن تتجاوز حدود المكان والزمان، لتُفهم بوصفها إعلاناً صريحاً عن مرحلة مقبلة سيكون فيها الوجود الفلسطيني ذاته تحت الخطر.
الزيتون الذي اقتلع في المغير لم يكن مجرد أشجار، بل كان حارساً للأرض وذاكرة للناس. وحين يُقتلع، فإن ما يُستهدف هو الذاكرة ذاتها. وإذا لم يُدق جرس الإنذار مبكراً ولم يتحرك الفلسطينيون ومعهم العرب والعالم، فإن الضفة الغربية ستجد نفسها أمام كارثة لا تقل خطورة عن مأساة غزة، لكنها ستكون أكثر صمتاً وأكثر بطئاً، حتى تكتمل الصورة التي يسعى الاحتلال لفرضها: أرض بلا زيتون، بلا ذاكرة، وبلا مالكين.