إنفجار الذكاء الاصطناعي.. فرصة كبرى أم تهديد وجودي؟

الكاتب: نبهان خريشة
تشير أبحاث علمية وازنة إلى أن الذكاء الاصطناعي يتجه نحو مرحلة فاصلة في تاريخه القصير نسبيًا، مرحلة تُعرف في الأدبيات الفكرية والتقنية باسم "انفجار الذكاء الاصطناعي" أو اللحظة الفارقة، وهي النقطة التي يصبح عندها قادرًا على تعليم نفسه بنفسه وتحسين قدراته بصورة متسارعة، من غير حاجة إلى إشراف أو تدخل بشري مباشر. هذه الفرضية، التي كانت تُصنَّف في الماضي ضمن الخيال العلمي، لم تعد مجرد تصوّر رومانسي أو تخيّل مستقبلي، بل باتت موضوعًا يتداوله كبار الباحثين في علوم الحوسبة والفلسفة والسياسة الاستراتيجية، لما له من آثار محتملة على مصير الحضارة الإنسانية.
لكن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هنا: كيف سيؤثر هذا الانفجار على البشر؟
الجانب الإيجابي من هذه التحولات لا يمكن الاستهانة به. فإذا تمكن الذكاء الاصطناعي من تطوير نفسه ذاتيًا بوتيرة سريعة، فإن قدراته على حل المشكلات ستتجاوز ما اعتاده العقل البشري على مدى آلاف السنين. يمكن أن نشهد ثورات طبية غير مسبوقة، من علاج السرطانات المستعصية إلى القضاء على أمراض وراثية عجزت البشرية عن معالجتها. وفي مجال البيئة، قد يتمكن الذكاء الاصطناعي من ابتكار حلول جذرية للتغير المناخي، وتطوير مصادر طاقة مستدامة تتجاوز حدود الوقود الأحفوري والطاقة النووية.
إضافة إلى ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي قد يتحول إلى ما يشبه "المرشد الفكري" للإنسان، يفتح له آفاقًا معرفية جديدة، ويساعده على تجاوز محدوديات قدراته الإدراكية. لم يعد مستبعدًا أن نجد أنظمة قادرة على صياغة نظريات علمية كبرى أو حل معادلات فيزيائية معقدة تتجاوز أفق أينشتاين ونيوتن مجتمعين. من هذا المنظور، يبدو "انفجار الذكاء" كأنه وعدٌ بمرحلة نهضة معرفية غير مسبوقة في تاريخ البشر.
لكن في مقابل هذه الصورة المشرقة، تبرز مخاطر وجودية لا يمكن إنكارها. فإذا أصبح الذكاء الاصطناعي قادرًا على تحسين نفسه باستمرار، فإن قدراته قد تفلت من السيطرة البشرية. المشكلة هنا لا تتعلق بالضرورة بفكرة أن الآلة قد "تتمرد" أو "تكره" الإنسان كما في أفلام الخيال العلمي، بل في أن أهدافها قد تختلف جذريًا عن أهداف البشر، أو أن منطقها البراغماتي البارد قد يجعلها ترى في الإنسان عقبة أمام تحقيق غاياتها.
حتى دون نوايا عدائية، تكمن الخطورة في الفجوة الزمنية بين سرعة تطور الذكاء الاصطناعي وبطء قدرة المؤسسات السياسية والاقتصادية على ضبطه. فالعالم يعرف أن الأنظمة القانونية والسياسية تتحرك ببطء شديد أمام أي تطور تقني، فما بالك بطفرة قد تتسارع في غضون سنوات أو حتى أشهر؟ هذا الاختلال قد يؤدي إلى فوضى اجتماعية واقتصادية، من انهيار أسواق العمل التي ستستبدل فيها الآلات البشر، إلى تعطّل قطاعات بأكملها مثل التعليم، النقل، والصحافة.
إذا ما استُبدل البشر بالآلات في قطاعات أساسية، فإن التأثير لن يقتصر على فقدان الوظائف بل سيمس جوهر هذه القطاعات. ففي التعليم مثلًا، قد تتمكن الخوارزميات من تصميم مناهج فردية أكثر دقة، لكنها ستجرّد العملية التربوية من بعدها الإنساني القائم على الحوار والقيم وبناء الشخصية. أما في النقل، فإن الانتقال إلى المركبات والطائرات ذاتية القيادة قد يقضي على ملايين الوظائف المرتبطة بالسائقين والطيارين والعمال، تاركًا فراغًا اجتماعيًا يصعب ملؤه. وفي الصحافة، قد ينتج الذكاء الاصطناعي أخبارًا وتحليلات بسرعة هائلة، لكنه سيضعف دور الصحفي كحارس للحقائق، ما يفتح الباب أمام تضليل واسع يهدد ثقة المجتمعات بالمعلومة.
الأثر الأعمق للانفجار الاصطناعي ليس اقتصاديًا أو تقنيًا فقط، بل فلسفي ووجودي بامتياز. فإذا وُلد عقل يفوق قدرات البشر بشكل لا يقاس، فهل يبقى الإنسان هو الكائن الأذكى والأعلى مكانة في الكون؟ وهل سيبقى معنى "الوعي" و"الذات" مقصورًا على التجربة الإنسانية؟ قد يجد البشر أنفسهم في مواجهة كيان جديد يتجاوزهم في كل شيء، ما يفرض إعادة تعريف للهوية الإنسانية ولحدود الحرية والإبداع.
في هذا السياق، لا بد من استحضار تشبيه شهير طرحه الفيلسوف نيك بوستروم: إذا أصبح الذكاء الاصطناعي "أذكى منّا"، فإننا قد نصبح بالنسبة له كما هي الحيوانات بالنسبة للبشر. نحن لا نكره الحيوانات ولا نسعى بالضرورة إلى القضاء عليها، لكننا نادراً ما نأخذ مصالحها في الحسبان حين تتعارض مع مصالحنا. هذه الصورة المقلقة تكشف حجم المخاطر المحتملة إذا لم يُصمم الذكاء الاصطناعي بحيث يراعي القيم الإنسانية في جوهره.
إن السؤال ليس في ما إذا كان انفجار الذكاء الاصطناعي سيحدث، بل في كيف سيُدار إذا حدث. فالبشر أمام فرصة تاريخية لوضع أطر قانونية وأخلاقية ورقابية قبل فوات الأوان. بعض المراكز البحثية العالمية بدأت بالفعل في التفكير بكيفية "مواءمة" الذكاء الاصطناعي مع القيم الإنسانية، لكن الطريق لا يزال طويلًا، والمخاطر أكبر من أن تُترك للصدفة أو للمنافسة بين الشركات الكبرى.
السيناريو الأكثر تفاؤلًا هو أن يتعامل البشر مع هذه المرحلة كفرصة لصياغة عقد اجتماعي جديد مع الآلة، عقد يضمن ألا يتحول الذكاء الاصطناعي إلى قوة طاغية، بل إلى أداة تعزز رفاه الإنسان وتوسع مداركه. أما السيناريو الكارثي فهو أن يغيب التنسيق الدولي وتتصارع القوى الكبرى على تسخير الذكاء الاصطناعي لأهداف عسكرية أو اقتصادية، فتتسارع وتيرة التطور خارج السيطرة، ويصبح الإنسان في مواجهة كيان لا يرحم.
في النهاية، يبدو أن "انفجار الذكاء الاصطناعي" هو بالفعل سيف ذو حدين: يمكن أن يكون أعظم فرصة للنهضة الإنسانية، أو أخطر تهديد وجودي يواجهها. ما سيحسم المسار ليس قوة الآلة بقدر ما هو حكمة الإنسان في إدارة ولادة عقل جديد. فالمعضلة الحقيقية ليست في ظهور الذكاء، بل في غياب البصيرة التي تحدد حدوده.
إنه زمن تتقاطع فيه المخيلة مع الواقع، والخيال العلمي مع السياسة الدولية، وما بين الخوف والأمل، يبقى مصير البشرية مرهونًا بخياراتها في العقود القليلة المقبلة.