الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 4:53 AM
الظهر 12:38 PM
العصر 4:13 PM
المغرب 7:05 PM
العشاء 8:22 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

فجـوة المعرفـة بالآخـر

الكاتب: نبهان خريشة

في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ثمة فجوة معرفية واسعة بين الفلسطينيين والإسرائيلين، لا تقتصر على السياسة أو القوة العسكرية، بل تمتد إلى الثقافية والمجتمعية وحتى اللغوية. فبينما يحرص الفلسطينيون على متابعة تفاصيل المشهد الإسرائيلي بكل دقائقه، سياسياً واجتماعياً وثقافياً، يكاد يغيب هذا الاهتمام تماماً لدى الإسرائيليين، مجتمعاً ومؤسسات. الفلسطيني يتعلم العبرية ويقرأ الترجمات من الصحف الإسرائيلية، ويتابع نشرات أخبارهم، أما الإسرائيلي فلا يعرف عن الفلسطيني إلا ما تسمح الرقابة العسكرية بنشره، ولا يبدي أي رغبة حقيقية في الاطلاع على شؤون الفلسطيني سواء في الأراضي المحتله أو حتى شؤون الفلسطينيين في الداخل .    

إن الإعلام الإسرائيلي مرتبط بالمؤسسة الأمنية والعسكرية في إسرائيل، ويوجد عدد من الإعلاميين الكبار كانوا يشغلون مناصب في أجهزة الأمن والمخابرات العسكرية "أمان"، بالإضافة إلى ارتباط معظم المؤسسات الإعلامية بالمكتب العسكري لرئاسة الأركان، عدا عن هيئة الرقابة العسكرية التي تراجع كافة المحتويات الأمنية والعسكرية المراد نشرها. الإعلام الإسرائيلي يتمتع بهامش حركة وحرية بتغطية الشؤون السياسية والاقتصادية والإجتماعية الداخلية، ولكن عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية والقضايا الأمنية، تصبح وسائل الإعلام أداة في يد القيادة السياسية والعسكرية.    

ويلعب الإعلام الإسرائيلي الدور الأبرز في تكريس جهل الإسرائيلي العادي بالشأن الفلسطيني، وعند تناوله يقدمه دائماً من زاوية ثنائية : "نحن" في مواجهة "هم"، و"جيش الدفاع" في مواجهة "المخربين"، وهكذا تختزل الحكاية في رواية ترتكز على الأمن فقط، تجعل الإسرائيلي يرى الفلسطيني مجرد تهديد أمني، لا إنساناً له حياة ومعاناة. يصبح الجيش هو الراوي الأوحد، بينما تُمحى أصوات الفلسطينيين من المشهد، فلا تُسمع سوى رواية الجبروت والزيف.

وتتجلى هذه السردية أكثر في استخدام المصطلحات. فالإعلام الإسرائيلي مثلا لا يستخدم مصطلح "الأراضي الفلسطينية"، ويستعيض عنها بتسميات مثل "يهودا والسامرة" أو "المناطق". الأولى من سردية توراتية تعيد صياغة الأرض باعتبارها "أرض الأجداد"، والثانية تحوّلها إلى مجرد مساحات بلا هوية ولا شعب. الهدف واضح: إخفاء حقيقة الاحتلال وتكريس صورة الفلسطيني المعتدي على "أرض ليست له"!

ولايتوقف الأمرهنا، فهناك كلمات غائبة بالكامل عن القاموس الإعلامي الإسرائيلي: الاحتلال، العنصرية، الأبارتهايد، التطهير العرقي، النكبة. هذه المصطلحات التي تشكل جوهر الرواية الفلسطينية يتم استبعادها تماماً، حتى لا يضطر الإسرائيلي إلى مواجهة الحقائق التي تنسف الرواية الرسمية. وهكذا يعيش المواطن الإسرائيلي في عزلة معرفية، وكأن الفلسطيني غير موجود إلا كـ "مخرب" يسعى لقتل اليهود .

وأكثر من ذلك، فإن قواعد اللغة نفسها تُسخَّر لخدمة الرواية. فحين يتعرض فلسطيني للقتل أو الاعتداء، يُستخدم في التغطية الإعلامية الإسرائيلية الفعل المبني للمجهول: "قُتل فلسطيني"، "أصيب فلسطيني"، بدون أسماء، ومن دون تفاصيل حول ظروف مقتله، ومن دون ذكر الفاعل. لكن عندما يتعرض إسرائيلي لهجوم، تتحول اللغة في التغطية إلى الفعل المبني للمعلوم: طعن فلسطيني جندياً، أو أطلق "مخربون" النارعلى مواطن "مستوطن"، وتُذكر أسماء القتلى وأعمارهم وتفاصيل حياتهم، في عملية مقصودة لـ"أنسنة" الإسرائيلي ونزع الإنسانية عن الفلسطيني ليبقى رقماً بلا اسم ولا ملامح.

هذه اللغة المراوغة لا تعكس فقط انحياز الإعلام، بل تعيد تشكيل وعي المجتمع الإسرائيلي نفسه. فالإسرائيلي العادي الذي يقرأ صحيفته، أو يشاهد نشرة الأخبارفي القنوات التلفزيونية لا يعرف شيئاً تقريباً عن واقع الفلسطينيين تحت الاحتلال، ولا عن اقتحامات الضفة، ولا عن القرى المهدمة ولا عن البيوت المصادرة. وبهذا يعيش الإسرائيلي بجوار شعب لا يراه ولا يسمع عنه أو منه، والفضل في ذلك يعود إلى آلة إعلامية تحجب الحقيقة وتقدم بديلاً مشوهاً يخدم السياسة الرسمية.

في المقابل، فإن الفلسطيني لا يملك رفاهية الجهل بالإسرائيلي. فاللغة العبرية يتعلمها الكثير من الفلسطينيين، ويتقنها العمال الذين يضطرون للعمل داخل إسرائيل، ويستخدمها صحافيون لمتابعة ما يجري في الداخل الإسرائيلي. هذا بالإضافة الى أن المواضيع المتعلقة بالصراع التي تنشرها سائل إعلام عبرية تُترجم وتنشر يومياً في وسائل الإعلام الفلسطينية، لأن معرفة المجتمع الإسرائيلي باتت شرطاً أساسياً لفهم السياسات الموجهة ضد الفلسطينيين. هذه المتابعة ليست خياراً ثقافياً بل ضرورة وجودية. 

وفي سياق فجوة المعرفة بين الفلسطيني والإسرائيلي، يمكن استدعاء ما قاله فرانتز فانون في كتابه "معذبو الأرض" حول أن المستعمِر لا يعترف أصلًا بوجود المستعمَر، ولا يراه إلا تهديدًا ينبغي عزله أو تشويهه أو إنكاره. هذه الرؤية تنطبق بوضوح على الحالة الفلسطينية، حيث يتم التعامل مع الفلسطيني ليس كصاحب أرض وتاريخ ورواية، بل كعبء أمني أو "مشكلة ديموغرافية" ينبغي التحكم بها. هذا الإنكار الممنهج يقود إلى فجوة معرفية عميقة، إذ يُحرم الفلسطيني من حقه في سرد قصته وإيصال صوته، بينما يفرض الإسرائيلي روايته المهيمنة عبر الإعلام والسياسة والأكاديميا، ليصبح الوعي الداخلي وحتى الدولي أسيرًا لرؤية أحادية الجانب لا تعكس الواقع الاستعماري القائم.

في مواجهة هذا الواقع، لا تكفي الترجمة الفلسطينية للصحف العبرية أو متابعة أخبار إسرائيل. المطلوب هو التفكير في وسائل جديدة لاختراق "قلعة" إسرائيل نفسها. ليس بمعنى التطبيع أو الترويج لرواية الاحتلال، بل بمعنى إدخال الرواية الفلسطينية إلى المجتمع الإسرائيلي بلغته وأدواته، بحيث يُتاح للإسرائيلي العادي أن يواجه حقيقة ما يجري على الأرض. فالتغيير لا يمكن أن يحدث ما دام الإسرائيلي يعيش في عزلة معرفية محكمة، يتلقى رواية من جانب واحد فقط. 

ويُعدّ مخاطبة المجتمع الإسرائيلي في القضايا الفلسطينية مهمة شديدة التعقيد، خصوصًا في ظل نزوع المجتمع الإسرائيلي المتزايد نحو اليمين، وتصاعد خطاب الكراهية تجاه الفلسطينيين بعد هجوم 7 أكتوبر وما تبعه من حرب مدمرة على غزة. هذا المناخ يغلق المساحات المفترضه لتوعية الإسرائيلي بالشؤون الفلسطينية،  ويجعل الفلسطيني في نظر قطاعات واسعة من الإسرائيليين تهديدًا وجوديًا لا شريكًا في أي تسوية محتمله. ومع ذلك، تبقى إسرائيل مجتمعًا سياسيًا متحركًا، يتأثر بتبدل الحكومات والأزمات الداخلية.

من هنا وفي انتظار فرص مستقبلية قد تنشأ لفتح ثغرات في "قلعة إسرائيل" المغلقة، خصوصًا إذا أفرزت الحرب على غزة متغيرات إقليمية ودولية قد تعيد رسم الأولويات، وتكشف حدود القوة العسكرية الإسرائيلية في "تحقيق الأمن". مثل هذه التحولات المفترضه قد تهيئ مجالًا جديدًا لطرح السردية الفلسطينية بجرأة أكبر ودون الوقوع في فخ التطبيع بمفهومه الحالي والذي لا يستفيد منه الا الإسرائيلي ، واستثمار لحظة إعادة تفكير إسرائيل في جدوى استمرار نهجها القائم على جبروت القوة والطغيان والإنكار.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...