الجيل المؤجَّل: كيف تتجاوز فتح وريثها الطبيعي وتستبدله بجيلٍ مُصنَّع؟
الكاتب: ياسر أبو بكر
في مسار الحركات الوطنية، يكون انتقال القيادة بين الأجيال عملية تراكمية تحافظ على الحيوية وتضمن استمرار المشروع الوطني. غير أنّ ما يجري داخل حركة فتح اليوم يعكس انحرافًا خطيرًا عن هذا المسار الطبيعي؛ فبدل أن ينتقل الدور إلى الجيل الذي يفترض أن يحمل الخبرة والنضج والمسؤولية، يجري تجاوز هذا الجيل لصالح جيل أصغر سنًا، يُستحضر بوصفه تجديدًا، بينما هو في الواقع جزء من هندسة سياسية تهدف إلى إعادة إنتاج الحرس القديم بوجوه جديدة.
المعضلة لم تعد مجرد تباطؤ في انتقال القيادة، بل أصبحت عملية مقصودة تؤسس لـ “تجديد مُدار” لا “تجديد حقيقي”. فالجيل الطبيعي-جيل الأربعينيات والخمسينيات-الذي عاش التجربة الميدانية والإدارية والتنظيمية، وخاض أثقل مراحل المواجهة والانقسام، وتحمّل الكلفة الأكبر في الدفاع عن الحركة ومشروعها، يجد نفسه اليوم خارج مسار الانتقال، وكأنه غير مرئي. أما الجيل الأصغر الذي يصعد بشكل مفاجئ، فغالبًا ما يأتي بلا تراكم تنظيمي متين، ولا وزن ميداني واضح، لكنه يبدو أكثر قابلية للضبط، وأقل رغبة في مساءلة الماضي أو تغيير البنية.
اللافت أن هذا النمط يتكرر في مؤسسات القرار كافة-في الأطر القيادية للحركة، وفي هيئات منظمة التحرير، وفي المواقع العليا داخل السلطة-حيث يجري تقديم وجوه شابة تحلّ محل جيل كامل من الكوادر الذين كان من الطبيعي أن ينتقلوا إلى الصف الأول. ما يحدث هنا ليس انتقالًا للأجيال، بل قفزًا فوق الأجيال؛ ليس اعترافًا بالطاقات الشابة، بل استخدامًا لها بوصفها واجهة تُجمّل صورة التقدم بينما تتيح للقديم أن يبقى ممسكًا بالمفاصل.
الجيل الوسط، الذي يُفترض أنه العمود الفقري للمرحلة، هو الضحية الحقيقية لهذا النمط. فهذا الجيل يمتلك شرعية التجربة الميدانية، وقدرة على النقد والمراجعة، وخبرة في مؤسسات التنظيم والإدارة، وصلابة في الموقف لا تروق لمن اعتاد مركزية القرار. وتجاوزه يعني خسارة عقل الحركة وقلبها، لأن لا الشباب يمكنهم القفز مباشرة إلى القيادة دون سياق، ولا الجيل القديم قادر على الاستمرار إلى ما لا نهاية.
بإقصاء الجيل الطبيعي وتقديم جيل أصغر مكانه، تتحول عملية تجديد الحركة إلى عملية إمساك ممتد بالمفاصل، حيث يجري ضخ وجوه جديدة لا لفتح الباب، بل لإبقائه مغلقًا. وتبدو الحركة وكأنها تتقدم شكليًا بينما تتراجع فعليًا؛ فالوجوه تتغير، لكن البنية تبقى ثابتة، وعناصر القرار تبقى بيد الفئة ذاتها التي عطلت انتقال الراية لعقود.
هذا الخلل البنيوي لا يهدد فتح كتنظيم فحسب، بل يهدد دورها في النظام السياسي الفلسطيني، وفي المشروع الوطني برمته. فالحركة التي تتجاوز وريثها الطبيعي لن تستطيع إنتاج استراتيجية جديدة، ولن تصنع توازنًا بين التجربة والشباب، ولن تستعيد ثقة جمهورها الذي يرى قيادات تُصنّع في غرفة مغلقة بينما تُقصى الكوادر التي تحمل الذاكرة والقدرة والمسؤولية.
إنّ فتح، إن أرادت استعادة دورها، مطالبة بأن تعيد الاعتبار للجيل الذي جرى تجاوزه، وتعيد تفعيل المنطق الطبيعي لتدافع الأجيال، وتفصل بين التغيير الحقيقي والتغيير التجميلي. فالمشكلة ليست في الشباب، ولا في الكبار، بل في بنية تُعيد إنتاج نفسها عبر القفز فوق الجيل القادر على حمل الراية.
الجيل المؤجَّل اليوم هو الجيل الذي يستطيع أن يقود، ويُراجع، ويُصلح، ويملأ الفراغ الوطني. وإعادة الاعتبار له ليست مجاملة تنظيمية، بل ضرورة سياسية لمستقبل الحركة، ومفتاح لاستعادة دور فتح في قيادة المجتمع الفلسطيني نحو مرحلة جديدة تحتاج كل خبرة، وكل وعي، وكل جيل في مكانه الطبيعي.

