البعد السياسي لزيارة البابا ليو الرابع عشر إلى لبنان .. ماذا لو اتُبعت إلى فلسطين؟
الكاتب: أسامة خليفة
زيارة قصيرة للبابا ليو الرابع عشر إلى لبنان تستمر من الأحد 30/11 حتى الثلاثاء 2/ 12، حملت رسائل عديدة، رسائل سياسية واجتماعية وأخلاقية وإنسانية إلى الداخل والخارج، في إطار من البعد الروحاني، رسالة البابا إلى القوى الكبرى، تجنيب اللبنانيين مأساة جديدة، وضرورة حماية لبنان من الحرب، سواء حرب أهلية داخلية يُدفع نحوها دفعاً، أو حرب بدعم أميركي تشنها إسرائيل التي تهدد بعملية عسكرية واسعة، بذريعة نزع سلاح حزب الله، وألا يكون لبنان مصدر تهديد لأمنها مستقبلاً، وحث البابا على تغليب مبادرات التهدئة، والحل الدبلوماسي عبر مسار سلمي، وحوار داخلي حول السلاح والدولة، والتأكيد على ضرورة حماية الجيش اللبناني وتعزيز دوره، باعتباره المؤسسة الوطنيّة الوحيدة القادرة على منع تفكك لبنان، وانهيار الدولة اللبنانية، وقد أصبح أمراً محتملاً من خلال التهديدات المختلفة والمتعددة التي تتعرض لها، والأزمات التي تمر بها، ويخشى البابا على صورة لبنان كبلد مؤلف من طوائف عدة، مرشح لأن يحمل رسالة تعايش، ويصبح مثالاً يُحتذى في العيش السلمي المشترك، أو أن يصبح بؤرة للتوتر والإخلال بالأمن والسلام المحلي والإقليمي، وإذا خسر لبنان هذا التنوّع بحرب قادمة، خسر موقعه ودوره ورسالته، وإذا خسر الشرق الوجود المسيحي، خسر هويته التاريخية.
يريد البابا الحفاظ على لبنان كنموذج للتعددية والتعايش في الشرق الأوسط. البابا ومعه الكثيرون من الذين يريدون الخير للبنان، يأملون أن يكون بلداً يحمل رسالة عالمية في الحوار وتقبل الآخر، واحترام الاختلاف والتعايش السلمي، وهؤلاء يتمنون أن يتجاوز لبنان أزماته، وأن يستعيد دوره كواحة للحرية السياسية والانفتاح على الثقافات، وكملتقى للمثقفين والفنانين، ومركز للطباعة والنشر والترجمة، وكنموذج للتآلف والتوافق بين اتباع الديانتين الإسلامية والمسيحية بطوائفهما المختلفة، رغم قلة عدده، نحو 6 ملايين، يتنوع الشعب اللبناني إلى 18 طائفة، فإما أن يجعل منها قوى متخاصمة متناحرة، أو قد يُشكل منها تنوعاً خصباً ينتج غناً اجتماعياً وحضارياً، أو يكون هذا مرتعاً لمن يريد حبك المؤامرات والصيد في الماء العكر، كما حدث في فتنة العام 1860. بقي الانقسام الطولي وبقيت جذور الأزمة يهددان بحرب أهلية في مراحل تاريخية، كما حدث في العام 1958، والعام 1975. ومن هنا دعا البابا اللبنانيين إلى «اتباع طريق المصالحة الشاق .. فثمة جراح شخصية وجماعية تتطلب سنوات طويلة وأحياناً أجيالا كاملة لكي تلتئم».
تشير بعض الإحصاءات أن نسبة المسيحيين في لبنان تصل إلى 40% من إجمالي السكان، والباقي من المسلمين، تلعب الطوائف دوراً أساسياً في الحياة السياسية اللبنانية، المناصب السياسية توزّع حسب الانتماء الطائفي، معظم الأحزاب السياسية تحمل هوية طائفية ودينية واضحة، هذا من الناحية الداخلية، أما من الناحية الخارجية، كان للتدخلات الاستعمارية، ونظام الامتيازات الأجنبية، في القرنين التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، تأثير هام في إثارة التناقضات الداخلية رغم أنها غير معنية بالدين، بقدر ما كانت معنية بإعادة توزيع النفوذ الاستعماري، كانت كل دولة من الدول الكبرى تعلن نفسها حامية لطائفة من الطوائف. روسيا القيصرية اعتبرت نفسها، حامية الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، وحامية المؤمنين الأرثوذكس، ضمن سياسة التوسع القائم على التأثير الثقافي والديني. وكان لفرنسا دور تاريخي طويل رسخ مفهوم الحامي التقليدي للطائفة المارونية في لبنان، بدءاً من الحروب الصليبية، واستمراراً تحت الحكم العثماني، ثم تعاظم الدور الفرنسي خلال فترة الانتداب على بلاد الشام بعد الحرب العالمية الأولى. وبعد الحرب العالمية الثانية، تراجع هذا الدور فاتحاً المجال لدور أميركي، برز وطغى على الدور الفرنسي التاريخي، حتى صارت السفارة الأميركية وكراً للتآمر وتأجيج الفتن الطائفية، وتفتح الباب واسعاً أمام التدخلات الإسرائيلية، لإنجاح مخططاتها، ولعل قيام إسرائيل كدولة يهودية في المنطقة أوجد فكرة قيام كيان سياسي على أساس ديني، كما مهد نجاح المشروع الصهيوني لسيادة أجواء من العداء والانقسام الديني والطائفي، ليس فقط في فلسطين بل في كل المنطقة، حيث عاش في فلسطين اتباع الديانات السماوية الثلاث في إخاء وسلام، إلى أن نشطت الحركة الصهيونية تنفيذاً لمشروعها الذي يحتم انتشار ثقافة الإقصاء ورفض الآخر، وزرع الانشقاق والتمييز على أساس الدين، وصنعت شرخاً بين الديانة اليهودية وباقي الأديان، حيث تهدف السياسات الإسرائيلية إلى استبدال الفلسطينيين بما فيهم المسيحيين بالمهاجرين اليهود من مختلف أصقاع الأرض، كانت نسبة المسيحيين الفلسطينيين قبل النكبة 12.5% من سكان فلسطين، لم يتبقَ اليوم سوى 1.2% في فلسطين التاريخية، أقل من 5 آلاف في القدس ذات الأهمية الدينية. حيث انخفضت أعدادهم بشكل ملحوظ في العقود الأخيرة بسبب ممارسات سلطات الاحتلال في التضييق على كل ما هو فلسطيني إسلامي أو مسيحي لدفعهم للهجرة خارج وطنهم.
في لبنان هجرة أو تهجير، لكن في فلسطين نهج إبادة وتطهير عرقي، وتحدٍّ وجودي لشعب بأكمله يطال في جزء منه الحضور المسيحي في مهد الديانات السماوية، قال المطران عطا الله حنا: «عندما تدافع الكنائس عن فلسطين فهي تدافع عن أقدس بقعة في العالم»، حيث تعتبر فلسطين الأرض التي ولد فيها السيد المسيح، مما يجعلها أقدس أرض بالنسبة للمسيحيين حول العالم. السؤال هل الزيارة تتعلق بالبعد الوجودي للمسيحيين في الشرق الأوسط كله؟. أم في لبنان فقط؟. يشكل هذا الوجود محوراً أساسياً للزيارة، بعد أن تزايدت الهجرة من لبنان، وهددت الدور التاريخي للمسيحيين فيه. فالكنائس اللبنانية، ومعها الفاتيكان، تنظر بقلق بالغ إلى التراجع الديموغرافي، بسبب الهجرات المتتالية تحت ضغط الأزمات الاقتصادية والسياسية وعجز الدولة عن حلها.
هكذا رأى البعض أن حماية الوجود المسيحي في الشرق الأوسط تمر حكماً عبر حماية لبنان وحده، وعبر استقراره، وصون صيغة العيش المشترك التي تميّزه، لكن أين فلسطين من العيش المشترك؟. أم أن أمرها مؤجل حتى يتم إنجاز القضاء الكلي والتام على الوجودين المسيحي والإسلامي في فلسطين لمصلحة المستعمرين الصهيونيين؟. حريصون على لبنان حرصنا على فلسطين، لكن لا نريد في هذا البعد الروحي أن يكون ثمة ازدواجية معايير. وهنا يُطرح السؤال: أليس الوضع أخطر في فلسطين؟. ألم تحذر اللجنة العليا للكنائس المسيحية في فلسطين من تصعيد سلطات الاحتلال والمستوطنين تهجير من تبقى من المسيحيين؟. ألم يتسارع بناء البؤر والمستوطنات حول الكنائس التاريخية وعلى أراضيها في مخطط تهويد وتهجير يهدف إلى إفراغ الأرض المقدسة مما تبقى من المسيحيين الفلسطينيين؟. قال البابا في لبنان: «علينا ضمان ألا يشعر الشباب بأنهم مجبرون على مغادرة وطنهم، وذلك بصناعة السلام في بلدهم»، قد يكون لبنان نموذجاً فريداً للتعددية في الشرق الأوسط، والوجود المسيحي فيه ليس مجرد حضور ديني، بل ركيزة لتوازن سياسي وثقافي وحضاري، أما في فلسطين، فقد اختل تماماً هذا التوازن، ما يستدعي تدخلاً قوياً من الفاتيكان يستند إلى اعترافه رسمياً بدولة فلسطين كدولة مستقلة في عام 2015، ويتطلب مزيداً من الاهتمام بممتلكات الكنائس، خاصة في القدس، وحمايتها من المصادرات المتزايدة من قبل السلطات الإسرائيلية بزعم تراكم الضرائب، ومنع الاستيلاء عليها من قبل الجماعات الاستيطانية. وفي صورة أخرى تظهر الكراهية المتأصلة في نفوس المستوطنين ما شاهده العالم كله كيف يُعامل الاحتفال الديني المسيحي في القدس من قبل المستوطنين بالبصاق على تجمعات المسيحيين أمام كنائسهم، هل في العالم اليوم من ينكر أن في فلسطين حملة حقيقية على الوجود المسيحي؟.

