"ما بعد الأمن القومي الأميركي 2025: تغيير في قواعد القوة،،، واستحقاق استراتيجي للمنطقة وفلسطين"
الكاتب: د. ياسر أبوبكر
تُظهر وثيقة الأمن القومي الأميركية للعام 2025 تحوّلًا واضحاً في بنية التفكير الإستراتيجي داخل واشنطن. فبدل التركيز التقليدي على قيادة النظام الدولي ونشر الديمقراطية وتحمّل عبء الأمن العالمي، تقدّم الوثيقة نموذجاً مغايرًا يقوم على الواقعية القومية ومحورية الداخل الأميركي بوصفه نقطة البداية والنهاية لأي تحرك خارجي.
إن "أميركا أولًا" لم تعد شعارًا سياسياً، بل أصبحت إطارًا ناظماً يربط الاقتصاد بالتفوق التكنولوجي بالقوة العسكرية، ويعيد تعريف التحالفات على قاعدة المصالح وتقاسم التكاليف لا على الولاء السياسي. في هذا السياق، تقلص واشنطن من دور "الشرطي العالمي"، وتتحول من التدخل المباشر إلى إدارة النفوذ عبر الصفقات، الطاقة، أمن الممرات البحرية، والتفوق الرقمي والعسكري.
بعبارة أخرى : تنتقل الولايات المتحدة من عالم تقوده القيم إلى عالم تحكمه موازين المصالح والتكلفة والعائد.
هذا التحول لا يبقى داخل حدود أميركا ، بل يمتد تأثيره مباشرة إلى المنطقة العربية. فالأمن والطاقة وسلاسل الإمداد باتت أولويات تتقدم على ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان. ستكون المنطقة العربية، بما تملكه من موقع جغرافي وثروات مواردية، جزءًا أساسياً من معادلة النفوذ الأميركية الجديدة، ولكن ليس تلقائياً. من سيملك أوراق مصالح حقيقية سيجلس إلى الطاولة، ومن يفتقر إليها سيبقى في الهامش.
الفرصة أمام الدول العربية اليوم تكمن في مخاطبة واشنطن بمنطق المنفعة المشتركة:
شراكات اقتصادية وتقنية بدل انتظار الدعم السياسي.
استثمار النفط والغاز والممرات البحرية كورقة قوة لا كورقة تصدير فقط.
تنويع العلاقات دوليًا دون القطيعة مع الولايات المتحدة، لضمان مساحة حركة ومرونة.
أما فلسطين، فالتحدي أكبر ولكن النافذة ما زالت مفتوحة. إن استمرار إدارة الصراع بدل حله ليس مجرد مأزق أخلاقي، بل عبء أمني واقتصادي على المنطقة والعالم. وفي ظل مقاربة أميركية جديدة تعتبر الاستقرار شرطاً للازدهار، يمكن للقضية الفلسطينية أن تعيد الدخول إلى الطاولة من زاوية مختلفة:
تحويل الحقوق الفلسطينية إلى مصلحة دولية لا مجرد قضية إنسانية.
وهذا يتطلب:
ربط الملف الفلسطيني بملفات الطاقة والتجارة الإقليمية.
تعزيز مشاريع التعليم والتنمية والاقتصاد داخل الأراضي الفلسطينية.
تقديم مبادرات تدريجية قابلة للتنفيذ بدل الاكتفاء بالشعارات النهائية.
بناء شبكة روافع دبلوماسية جديدة مع أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية، مع الحفاظ على قناة اتصال براغماتية مع واشنطن.
وفي ختام المشهد، تبقى رسالة إلى العالم الغربي؛ رسالة خالية من الصخب، مبنية على منطق بسيط:
فلسطين ليست عبئًا على الأمن الإقليمي، بل مفتاح استقراره.
أي تسوية لا تعطي الفلسطيني حقه في حياة كريمة -في دولة حرة مستقلة- ستبقى هشة، وأي تجاهل للحقوق التاريخية سيضاعف الاحتقان ويؤجل الانفجار القادم. يمكن للغرب أن يختار بين استثمار طويل المدى في الاستقرار والتنمية أو الاستمرار في إدارة أزمة تُستنزف فيها الحكومات وتدفع الشعوب نحو اليأس والتطرف.
الطريق ليس مثالياً ولا سهلاً، ولكنه ممكن. ولسنا نطالب بمنح أو عطايا، بل بحقيقة واحدة يفهمها صناع القرار في عالم القوة: سلامٌ يقوم على العدالة هو أقل كلفة من صراع دائم.

