بين الشرعية والوفاء… اختلافٌ من داخل الصف| رسالة وطنية إلى الأخ الرئيس محمود عباس
الكاتب: د. عدنان ملحم
نقطة ضوء
رسالة وطنية إلى الأخ الرئيس محمود عباس
نكتب إليك في مرحلة وطنية دقيقة، من موقع الحرص الصادق على وحدة الموقف الفلسطيني، واحترام الشرعية، وصون مؤسساتنا الوطنية، وإيمانًا بأن الاختلاف المسؤول من داخل الصف الوطني هو ضرورة للحماية لا تهديدًا لها، وتصويبٌ للمسار لا خروجٌ عليه.
لقد تابعنا بيانك الأخير، وما تضمّنه من تأكيد واضح على أن الوفاء لتضحيات الشهداء والأسرى والجرحى وعائلاتهم هو التزام وطني وأخلاقي راسخ، لا يقبل المزايدة ولا الاستثمار السياسي. ونؤكد، بوضوح، أننا نثمّن هذا الموقف، ونعتبره أساسًا جامعًا لا خلاف عليه.
غير أن اختلافنا معك وبصراحة وطنية واجبة، لا يتعلّق بالمبدأ المعلن، بل بالسياسات والقرارات التي جرى اتخاذها تحت عنوان الإصلاح وتنظيم منظومة الحماية الاجتماعية، وما ترتّب عليها عمليًا من مساس مباشر بحقوق أُسر الشهداء والجرحى والأسرى، وتحويلهم، في التطبيق، من أصحاب قضية وطنية جامعة إلى “حالات اجتماعية” خاضعة لاستمارات ومسوح ومعايير تتناقض مع مكانتهم النضالية والرمزية.
الأخ الرئيس،
إنّ ما جرى لا يمكن التعامل معه بوصفه إجراءً إداريًا أو ماليًا عاديًا، ولا فصله عن سياقه السياسي. فشطب مئات الأُسر من قوائم الصرف، أو تخفيض المخصصات إلى مستويات تمسّ الكرامة الإنسانية، أو استثناء فئات بعينها كالشهداء العسكريين أو شهداء الساحات الخارجية، ليس إصلاحًا، بل مسٌّ خطير بجوهر العلاقة بين الدولة وشعبها، وشرخٌ في الذاكرة الوطنية التي قامت عليها شرعية النضال الفلسطيني.
إن الخطورة هنا لا تكمن في قيمة المخصصات فحسب، بل في الرسالة التي تصل إلى المجتمع الفلسطيني: رسالة توحي بأن التضحية قد تصبح عبئًا، وأن الدم يمكن أن يُعاد تقييمه وفق معايير وضغوط خارجية، وأن العائلات التي قدّمت أبناءها دفاعًا عن الوطن يمكن أن تُطالَب اليوم بدفع ثمن الابتزاز الأمريكي–الإسرائيلي، سياسيًا وأخلاقيًا.
نحن ندرك، كما أكدت الجهات الرسمية، حجم الضغوط السياسية والمالية المفروضة على القيادة الفلسطينية، ونعلم أن الالتزامات الدولية واقع لا يمكن إنكاره. لكننا نؤمن، في المقابل، أن الاستجابة لهذه الضغوط لا يجوز أن تمر عبر أقدس شريحة في المجتمع الفلسطيني، ولا عبر أكثرها تضحية. فالإصلاح الحقيقي لا يبدأ من أُسر الشهداء، ولا يُبنى على حساب الأسرى والجرحى، ولا يمكن أن ينجح إذا شعر الناس أن الحقوق الوطنية باتت قابلة للاجتهاد أو المقايضة.
لقد عبّرت أُطر أُسر الشهداء والأسرى عن موقف وطني مسؤول، تمسّكت فيه بالاحتجاج السلمي والحضاري، ورفضت أي إساءة للممتلكات العامة أو استغلال سياسي لقضيتها. وهو موقف ناضج يستحق، بالمقابل، معالجة وطنية جامعة، تُعيد الاعتبار للحقوق، وتغلق باب الالتباس، وتمنع تحويل قضية الشهداء إلى ساحة توتر داخلي أو انقسام.
ومن هذا المنطلق، فإننا نرى، بكل احترام، أن المطلوب اليوم هو:
• التأكيد العملي، لا الخطابي فقط، على تثبيت مخصصات أُسر الشهداء والأسرى والجرحى باعتبارها حقوقًا وطنية ثابتة.
• وقف أي إجراءات شطب أو تخفيض أو استثناء، وإعادة جميع من تضرروا منها فورًا.
• إعادة النظر الجذرية في دور وسياسات مؤسسة “تمكين” في هذا الملف، ومنع أي مساس بالبعد الوطني والنضالي لهذه الفئات.
• إطلاق حوار وطني تشاركي، تشرف عليه القيادة السياسية، مع ممثلي أُسر الشهداء والأسرى والجرحى، لوضع آليات واضحة وعادلة تحمي الحقوق وتمنع تكرار الأزمة.
• الفصل الواضح بين متطلبات الإصلاح الإداري والمالي، وبين القضايا الوطنية ذات الرمزية الجامعة التي يجب أن تبقى خارج أي اجتهاد.
الأخ الرئيس،
إنّ قوة فلسطين لم تكن يومًا في المال ولا في رضا الخارج، بل في شعبها، وفي عدالة قضيتها، وفي وفائها لأبنائها الذين قدّموا حياتهم من أجلها. وحين يشعر هذا الشعب أن دماء شهدائه مصونة، وأن أُسرهم في مأمن من الإذلال أو الإقصاء، تتماسك الجبهة الداخلية، ويقوى الموقف الوطني في مواجهة الاحتلال ومخططاته.
نكتب إليكم لا للمخاصمة، بل للتحذير بمحبة،ولا للتشكيك، بل للمطالبة بتصويبٍ يحمي المعنى قبل الإجراء، ويصون خطًا وطنيًا ظلّ، وسيبقى، خطًا أحمر.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام والتقدير،

