الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 5:12 AM
الظهر 11:42 AM
العصر 2:27 PM
المغرب 4:52 PM
العشاء 6:12 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

نحتاج إلى ثابت..الآن!

الكاتب: المتوكل طه

كأنّه مشهدٌ سينمائيّ؛ شاحنة رابضة أمام مدخل البناية، وثمّة فتحات لفوّهات البنادق، مصوّبة نحو المدخل، وما أن يخرج الرجلُ حتى ينهال الرصاص الغليظ، فيتفتّت القوامُ النبويّ!

تنخبطُ المدينةُ والأنحاء، وتهبّ الجموع، لحمل الشهيد إلى مثواه، وتدور الآلاف المؤلّفة الهادرة، الهاتفة المفجوعة الغضبى، وتشقّ الشوارعَ التي فاضت بأمواج تترى - وكان الفصل شتاءً وانتفاضة - فتدلح السماءُ غيثَها دون انقطاع، وتُطلق الكتائبُ حممَها التي تتوعّد القاتل بالرّدّ! كأنّ الأمطارَ دموع الناس والملائكة على الشهيد، الذي تشكّل وطنُه من كلّ هذه الوجوه المنتمية إلى أبجديات الطهارة والكرامة. والشهيد هو ثابت ثابت. هل رأيتم رجلاً من ندى وريحان، ووجهاً من فرح الأطفال، وضحكة من رذاذ العيد؟
ذاك ثابت الثابت. حُمْرةُ وجهه زائدة، كأنه مرهون لغضب أبديّ، أو كأنه من سلالة "الزهراء" الطاهرة.

وهل عانقتم نهراً في جسد يضفضف بالنُور والذّهب؟ وهل أحببتم صلاةَ الشجر، أو لقاءَ البعيد العائد؟ وهل حملتم زهرةَ الحليب إلى الأُمّهات، بأناقة وخشوع؟

لقد كان ثابتُ في العناق المجيد، حتى سقط عالياً!

ثابت (أبو أحمد) مات. إذن؛ لتدقّ الأجراس ألف ألف عام، ولتُكَبّر المآذن ألف ألف مثلها، وليكتبوا على مداخل المدن والبلاد: إن ثابت غاب! فلتُرضع السَروةُ ابنتَها لبناً من دمعها عليه، ولتُطلِق السباعُ قشعريرةَ الوديان بعويلها، لأن أبا الجبال مات، وأبا الينابيع مات، وأبا الطيور البريئة مات.

كان زهر الليمون الشتوي يسّاقط من أكمامه، ويطلّ النرجس من عنقه المشرّب بالمغيب، كانت تَحفُّهُ عرائسُ الغموض، وتحمل خطوته إلى درج الصباح، فيظلّ واثقاً رائقاً يضوّع الطريق بالأريج.

الطبيب الذي كرّس كلّ ثانية من أعوامه الخمسين في العمل الوطني الخالص لوجه الله وفلسطين. هو قائد بحجم البلاد. لا يفتر ولا يكلّ، ولم تتجرّأ عليه مقولات السواد والهزيمة. التطهّريّ بامتياز، البسيط بعمق ووعي، والمتواضع مع إخوته الذين امتشقوا أرواحهم الصخريّة بجموح وجسارة، والمُعافى من كلّ سوء. ويبدو أنه المعادل الموضوعيّ للناسك الذي كان حاضراً لحظة كتبوا الآيات السماويّة، فانسربت في وجدانه، فَكَرَز بها وبشّر بالنهار. هو مِن الذين ولدوا في العتمة، وماتوا في الضوء.
تأمّل، فاكتشف أن المواجهة الحاسمة مع النّقيض واجبة الوجود، ولم يأبه لحسابات المُرجفين. إنه أمام تقاطع طرق، ينبغي أن يُفضي إلى القدس والخلاص. أمّا النَدم فإنّه من حصّة "القادة" الخائفين الذين كرهوه، لأنه كشف صغَارَهم ومؤامراتهم الخسيسة، وسرقاتهم المصوّحة، فانغلقوا وراء اللعنة، بخفايا ذلّهم المشبوه.

وأدرك أنّ عليه أن يستدرك تقصيرَ السياسيّ الخائف المحكوم بمصالحه التافهة، ورجل الدّين المنافق، والعالِم المُتعالِم.
ثابت ثابت الحقيقة الماسيّة المُشعّة، التي قالت بفعلها ودمها، الحقيقةَ الساطعة، دون مواربة ورطانة وتبرير. ولهذا؛ يحقّ لعيني الفهد الخضراوين اللتين انطفأتا باغتيال د.ثابت الثابت، أن نَصبغ أسناننا بالسواد، حزناً ومرارةً، وأن نهيل الرمادَ والعارَ على رؤوس المأزومين، وأن ينتحب القلب، ويجوح الصدر..حتى لا يظلّ دمعٌ في الرأس.

مَنْ يُصدّق أن ثابت مات! - أستغفر الله ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم -
على مثله يبكي الرجال، وعند موته يموت الصبر، ويصبح الحزن وحشاً يفتتّ الكبد ويحرق القلب.
مَنْ رأى منكم أبا أحمد في السجن؟

كثيرون، بالتأكيد!

كان تاج شمعة بحجم الإنسان، يحبّ الشِعرَ الواضح، وأطفالَ السخرية، ويمتعض من الالتباس والغمغمة. قليل الكلام، دائم الابتسام، لم يلق بالاً لقمصان السجن أو لزمهرير الهزيع. كان يفرك كفّيه، ويعاود الاطمئنان على المرضى، يجسّ نبضهم، ويعصر خرقة الماء، ويبسطها على جبين مَنْ وقع في حمّى تردّد المناخ.

مَنْ رأى أبا أحمد؟

كان في المعتقل، يرقب رقعة الشطرنج، حتى إذا فرغ اللاعبان نصح الغالب والمغلوب، وبيّن لهما أخطاءهما..وعندما يطلبه أحد للمبارزة، كان يقول له: إن بيادقي من لحم ودم، وأنا الحصان والقلعة والملك!

كيف سمحتَ لهم، أيّها الملك، أن يُقلّبوا جثمانك أمام كاميرات الصحافة، ليظهروا للعالَم مكمن إصابتك ومداها..ولم تبعدهم؟!
كنتَ مستسلماً، ذراعاك على بطنك المهتوك مقيّدتان، كنتَ حيادياً، ثم دفعوا بك إلى الصندوق المُعتم البارد!
انتظرتُ أن تدفعهم بعزيمة يديك، وأن تنهض بكامل نبيذك وعسلك، وأن تذهب إلى ملابسك، فترتديها من جديد، وتعود إلى إصلاح الجسد من ثقوب الرصاص الغليظ.

لماذا لم تفعلها وتنهض يا صديقي..لماذا؟

هل ذهبت إلى الجنّة!؟

حسناً! طولكرم جنّة أيضاً، وأقسم بالله، لو أنكَ سمعتَ بكاء أبنائك وأهلك ونشيج الناس وصراخهم، لكشفتَ غطاء النَعش، ونزلت منه..وذهبت إليهم، تعتذر لهم عن موتك!

لكنك لم ولن تعتذر، كأنك تريد بموتك أن تدفن قرن المظلمة والإبادة والاستلاب، وتبعث بدمك الجُلّنار، ذكرى العاصفة المتجدّدة، حتى الأسوار والنشيد الأخير.

وهل نحن أحياء لنقول إنك ميت يا ثابت؟ وكيف نكون أحياء وصخرة المعراج محاطة بسنابك خيل الآخرين، ولم يرتفع حزننا الغوليّ فوق قامة الفقاعة، أو على ضباع أسبارطة، التي تلعق دماءنا، بأنيابها وخراطيم حديدها المُهلك.
وهل سنواصل "السلام الخانع" بعد قليل؟ لتنسرب الرغوة الفاسدة إلى رئتي القرى والصلوات، ونطوي صفحة وجهك الأرجوان؟
أرى حبّةً من كهرمان صدرك تسقط في الطريق..وبعد قليل، ستنفجر الأشجار، وينفضُ فتى العاصفة غُصْنَ البرق، لتنثال على الدنيا أنوار

المجد والخلاص! عندها، ربما، سنبكي رجلاً، كان ثابتاً على عهد التراب، وكان اسمه العالي المسجّى: ثابت ثابت!
البلاد من بعده ناقصة. ولا بُدّ من الوقوف، طويلاً، إجلالاً أمام هذا الشهيد البطل، الذي سقط وهو يواجه وباء الاحتلال، بكل ما أوتي من دم وشرف وبسالة. وأحسب أن ثابت قد توالد في كلّ برعم وسنبلة ووتر. وما زال يؤوّب بين البيّارات، ويدور على بيوت الشهداء والجرحى والأسرى، الذين تركهم مختارُ البلدة نهباً للجوع والخديعة والقهر. وسيحدّق في المشهد الكابي الصادم! وسيجأر من قحف رأسه على أولئك الذي غمرتهم الغربة تحت أسداف النسيان، ولم يتبقَ لديهم سوى حكمة خائبة، تدعو لمعانقة القاتل خوف الموت.

الآن؛ نحتاج إلى ثابتٍ يكون حارسا للثوابت الأولى، ولأحلامنا المذبوحة. نحتاج إلى ثابت الذي يحمل المفتاح والكوشان، ولا يبتعد عن يافا وعكّا أكثر من نبضة قلب. نحتاج إلى ثابت ليطرد عناكب العتمة من البيت، وطفيليّات السوء عن الجذع الممرع والجدار، وأن يبقى معلّقا من قلبه، وردةً، على صبّار القرية وراء الأسوار الشائكة. نحتاج إلى ثابت الذي حفظ الأغنية من بيادر الوهاد، ووعد المناديل بأنه سيطلقها طيورا في ساحة البلدة عند العودة الأكيدة. نحتاج ثابت الذي قتلوه، وجاءوا بالمُتَشَبّه به، المُتلمّظ بلحم النساء المُغتَصَبات، وبالنّاهب الذي باع الحَجَرَ والكوفيّة. نحتاج ثابت الذي سيشحن القبيلةَ، ثانيةً، بأوار الرّعد الزاخر بالضوء. نحتاج ثابت الذي يتناسل أفراساً تخرج من نهر الفتح، لترشقَ الليلَ بصهيلٍ وحشيٍّ مجيد. نحتاج إلى ثابت صاحب القراءة الرسوليّة، التي أعدّت للفجر صحنَ الجَمْرِ، ليشهق بالشروق.

باختصار؛ ثابت رجلٌ لا يتكرر، شجاعةً وإقداماً وانتماءً والتزاماً وتضحيةً. هو المقاتل، وصاحب الرؤية والرؤيا، الخلوق في حديثه وسلوكه وقرارته. صديق العامّة والمخيمات، وصديق الريف والمدينة، وصديق الفقراء والشباب والباعة والجارات الأُمّهات، المحبوب الجميل الأنيق، الذي إذا نظرت اليه سرّك، وإن حدّثك أمْتَعك وأفادك. إنه القدوةُ والأخُ الذي لم تلده أُمّك. وهو الصديق الذي يصدقك، والقائد الذي يصعب منافسته والتقدم عليه، لسجاياه الاستثنائية السامقة. ذو فراسة نافذة، وحكمة مُقطّرة، وبحضور باذخ سمح جميل. وأعتقد أننا نحسّ، فجأةً، بالهَرَم، عندما يرحل أصدقاؤنا أو تموت أُمّهاتنا، وعندها تشاركنا الشيخوخةُ رؤيتها وإيقاعها، ما لم ندرك ذاتنا، فننفض عن أرواحنا غبار الأسى.

وهل أقول إن المدينةَ قد تيتّمَتْ بعد رحيله؟ مهما يكن..فإننا نغبطه حيّا وحيّاً، لأنه عاش كما ينبغي، وصعد إلى فردوسه كما أراد. وربما نغبطه ،أيضا، لأنه لم يرَ ما ألَمّ بنا، اليوم، من كوارث حارقة.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...