ماذا بعد الحكومة الجديدة؟
الكاتب: د. عبد المجيد سويلم- الايام
بات واضحاً الآن أن الحكومة الجديدة ستشكل بقرار (مرسوم) من سيادة الرئيس خلال عشرة أيام (على الأبعد) من يومنا هذا، وهو الأمر الذي أصبح بالإمكان الحديث الصريح عن أبعاده وما سيترتب عليه.
من حيث المبدأ فإن ما قيل عن تولّي اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية مهام "الحكومة" (إلى حين انجلاء الصورة مع حركة "حماس") ليس له أساس من الصحة ولم يطرح على أي جدول أعمال، وهو خارج نطاق التفكير الفلسطيني، وكل ما قيل بهذا الصدد ليس إلاّ فبركات صحافية من صحف، لا تجيد في الواقع سوى هذه الفبركات وما شابهها، وهي صحف "نجحت" بتحرير فلسطين عدة مرات متتالية و"خلقت" عوالم ثورية متكاملة عَبر مثل هذه الفبركات بالذات ولا عَبر أي شيء آخر.
لدى هذه الصحف "خرائط" دقيقة للحالة الوطنية في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، ولديها قوائم نهائية حول الثوريين والوطنيين والتقدميين والثائرين، كما أن لديها قوائم أكثر أهمية حول "بطولات" متخيّلة وحول دول خائنة وأخرى ثورية وشخصيات فاسدة وأخرى نزيهة، ولديها شارات ملوّنة مواتية لكل الأطياف السياسية على امتداد وجود الأمة، وكل ما تقوم به هذه الصحف في الواقع هو لصق الشارة على الطيف المعني وإعداد المادة الصحافية المناسبة للوضع الجديد والطيف الموصوم أو الموصوف.
باختصار ليس لدى هذه الصحف من هموم خاصة باستثناء الفبركات ولصق الشارات وتحضير الطبخة الصحافية المناسبة. وبما أن عودة الدكتور سلام فياض لتولّي مهام الحكومة الجديدة مسألة مستبعدة تماماً، وبما أن الرئيس ليس مضطراً لتولّي رئاسة هذه الحكومة، فإن تكليف شخصية وطنية مستقلة برئاسة الحكومة أصبح أمراً محتّماً ولم تعد المسألة تحتاج إلى الكثير من التكهُّن.
واضح في ضوء ذلك أن مهمة هذه الحكومة من الزاوية النظرية هي ملء الفراغ الدستوري بانتظار انقضاء الأشهر الثلاثة، التي قيل إنها ستكون المهلة الأخيرة للاتفاق على الحكومة التي سيتولاّها سيادة الرئيس لفترة وجيزة، وبحيث يتم خلال ثلاثة أو أربعة شهور أو ستة شهور (على أبعد حدٍّ متوقّع) إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية وتلك التي تتعلق بالمجلس الوطني بعد الانتهاء من إعداد الصيغة النهائية لقانون انتخابات هذا المجلس.
هذا كله من الزاوية النظرية، أما من الزاوية العملية فواضح أن الحكومة الجديدة يمكن أن يمتد عمرها إلى سنوات طويلة إذا ما تبيّن أن حركة "حماس" ليست بوارد الاتفاق على الخطوات المحددة في اتفاقي "الدوحة" و"القاهرة"، بل ويمكن القول ومنذ الآن إن حكومة من هذا النوع حتى ولو جرى بين الحين والآخر إجراء بعض التعديلات عليها بما في ذلك شخص رئيسها فإنها ستتحول من حكومةٍ لملء الفراغ الدستوري الطارئ إلى حكومة "دائمة" أو طويلة الأمد وإلى حين ظهور معالم سياسية جديدة لمرحلة سياسية جديدة.
ومن الزاوية العملية، أيضاً، فإن حكومة ملء الفراغ ستكون أمام مهمّات (حكومة الرئيس) التي كان مفترضاً تشكيلها، وفي حال وصلت "المفاوضات" بين "فتح" و"حماس" إلى طريقٍ مسدود كما كان عليه الوضع حتى الآن ومنذ سنوات طويلة فإن حكومة ملء الفراغ ستكون مطالبة بالبحث عن الصيغ المناسبة لإعادة بناء النظام السياسي (في حدود الانتخابات الرئاسية والتشريعية)، كما ستكون مطالبة بإعادة رسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية في الضفة والقطاع في ضوء المعالم السياسية الجديدة للمرحلة المقبلة. الكل يأمل أن لا نصل إلى الطريق المسدود من جديد، والكل (الوطني) ما زال يراهن على انتصار العقل وهزيمة الانقسام والخروج وإلى غير رجعة من مستنقع القبيلة السياسية، ومن أوهام "الكانتون" (الإسلامي) إلى رحاب الهُويّة الوطنية والمشروع الوطني، إلاّ أن السياسة المحنّكة تقتضي توفير العدد الأوفر من الخيارات والبدائل.
لا يوجد في الأفق (إذا أردنا الصراحة والوضوح) ما يُبشّر بانفضاض أزمة المصالحة خلال الأشهر الثلاثة التي قيل إنها (المهلة السحرية)، ولا يوجد ما يوحي بأية أجواء أو مناخات جديدة. على العكس من كل ذلك فإن افتعال "المعارك" والأزمات "وتطوير" أساليب جديدة للتراشق الإعلامي والفبركات السياسية هو سيّد الموقف، والأمور على هذا الصعيد بالذات تنذر فقط باشتداد الحملات الإعلامية والفبركات السياسية وافتعال المزيد والمزيد من الأزمات و"المعارك".
كل المؤشرات تقول إن الأزمة (أزمة المصالحة) أبعد وأعمق من (تأخير إنجاز قانون انتخابات المجلس الوطني) ومن اختلاف على شهر أو عدة شهور لمواعيد الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وهي (أي الأزمة) أكبر وأكثر تعقيداً من هذه "الفنيّات" الإجرائية. إنهاء الانقسام باعتباره الكارثة التي حلّت بالشعب الفلسطيني وبما يشبه النكبة الجديدة هو الموضوع الأكبر والأهمّ على جدول أعمال الكلّ الوطني الشامل.
فإما أن يتم إنهاء هذا الانقسام بالتوافق أو الاتفاق أو أن يتم اتخاذ كل الإجراءات القانونية والتشريعية والسياسية التي تجعل من "بقاء" قطاع غزة (ككيان سياسي منفصل) أمراً خارج الإجماع الوطني، وخارج الشرعية الوطنية الدستورية، وخارج الشرعية الإقليمية والدولية بقدر ما هو ممكن ومتاح.
علينا أن نقدم لبعضنا بعضاً كل ما يمكن وحتى أبعد من كل ما يمكن من تنازلات بهدف الوصول إلى التوافق الوطني الشامل على إنهاء الانقسام. ولكن علينا بنفس الدرجة من الإرادة والحزم أن نتوافق (بأوسع إطار وطني ممكن) على تلك الخطوات القانونية والتشريعية والسياسية لتحويل انفصال أو تكريس انفصال غزة إلى مستحيل سياسي، وعلى الحكومة الجديدة أن تعرف وأن تحضر نفسها لمرحلة جديدة (إن أتت لا سمح الله) ليس فيها مجال للهرب أو الهروب أو التهرُّب، وعلى القيادة الفلسطينية كما أرى أن توضّح للشعب رؤيتها لخطتها الوطنية في مواجهة تكريس الانقسام والانفصال في حال إن فشلت كل المحاولات لثني حركة "حماس" عن طريق الأوهام الانفصالية.
صحيح أن حركة "فتح" تتحمل مسؤولية كبيرة في شق هذا الطريق ولكن قيمة هذا التوجه تكمن في التوافق الوطني الشامل عليه.