معهد العلم المفدّى
الكاتب: رامي مهداوي
هنا جامعة بيرزيت.. هنا جامعة الشهداء.. هنا كنا وكانوا... هنا نشأنا وترعرعنا .. هنا علت أصواتنا... هنا كتبت شعاراتنا ... هنا مصنع الرجال.. ومن هنا انطلق شرف الطيبي ويحيى عياش.. من هنا لحق بركب الشهداء ياسر عبد الغني وخليل الشريف... ومن هنا كانت بدايات الطريق لأحلام التميمي وآمنة منى... من هنا مر القائد مروان البرغوثي ... والى هنا قريباً سيعود... هنا نشأ الوزراء والقيادات الحزبية والنقابية، وهنا كتب التاريخ كيف لقن طلبة بيرزيت الدروس السياسية والمجتمعية ليس فقط على الصعيد المحلي وإنما الدولي.
صور تم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي كانت لنا معها وقفة مؤلمة، أعادتنا سنوات عدة الى الوراء، حافلات جند وعشرات من قاتلي الأطفال مدججين بالسلاح مروا من هنا.. باقتحامهم جامعة بيرزيت اقتحموا فلسطين بيتا بيتا مرة واحدة.. مروا من جانب صرح لتخليد ذكرى الشهداء.. صرح لطالما وقفنا رافعين رؤوسَنا أمامه نستذكر بطولاتهم وأمجادهم.. صرح نجدد العهد والقسَم لأسماء خطت عليه بأننا على دربهم وخطاهم سنسير.. داست أقدام جندكم رصيفاً كان يجلس عليه طالب وطالبة ومن بلدة الزبابدة في جنين وهي من القدس، الآن هم عائلة يناضلون ببقائهم بالقدس وببناء المؤسسات الوطنية وبتربية أبنائهم الذين سيدرسون بالجامعة التي جمّعت من كان سبب وجودهم... مروا من أمام مبنىً صغير بحجمه عظيم بإنجازاته... مجلس للطلبة فيه اختلفنا لنتفق، منه صدرت التعليمات لتلقين المحتل دروساً في المقاومة، منه صدرت قرارات هامة حددت مصير الشارع الفلسطيني.
لم نكن نعلم حين التحقنا ببيرزيت للعلم طالبين .. أننا سنغادرها يوماً ما بشهادة وطنية الى جانب الشهادة الأكاديمية... لقد علمتنا بيرزيت أبجديات النضال، علمتنا معنى التعددية الفكرية والسياسية، علمتنا احترام رأي الغير قبل احترامنا لآرائنا، علمتنا أن نهتف لياسر عرفات مؤيدين له اذا أصاب ... علمتنا كيف تعلو صرخاتُنا في مسيرة الثالث من نيسان الخالد لنقول له أن لا بديل عن الخيار الفلسطيني ... لا بديل عن الخيار الديمقراطي، علمتنا أن نقف أمام تدخل الأجهزة الأمنية الفلسطينية في حياة الطلبة، علمتنا كيف نقف اجلالاً واكباراً لهم حين هبوا لنصرة الأقصى فكان منهم الشهداء والجرحى والأسرى، علمتنا كيف تكون الوحدة الوطنية بوحدة الحركة الطلابية .. علمتنا أن لا نفرق بين فتحاوي وحمساوي وجبهاوي ما دامت فلسطين غايتهم.
صور مؤلمة لكنها جميلة، جميلة لأنها التقطت على يد مجموعة من الصحافيين والمصورين تحدوا عنجهية المحتل ليوثقوا انتهاكه لقدسية وحرمة الجامعة.. كيف لا ومعظمهم من خريجيها، كيف لا وهي التي علمتهم أن يكونوا جنداً للحقيقة وكشفها، علمتهم كيف يواجهون السلاح بسلاح الكاميرا لولادة الصورة، ويتحدون ناقلات جنودهم بالقلم لولادة الكلمة، سلمت أيديكم يا جند الحق، سلمت الأيدي التي حالت دون أن تطال أيديهم ما يقع تحتها وتعيث فيه الخراب والدمار، سلمت الأيدي التي نقلت للعالم أبشع أنواع الاحتلال في القرن الواحد والعشرين وبالرغم من ذلك وبذات الوقت يتم اختيار إسرائيل نائباً لرئيس لجنة الأمم المتحدة الخاصة بمكافحة الاستعمار!!
صور مؤلمة لكنها تكشف خيبة المحتل، محتل اقتحمها باحثاً عن مناضلين فكان الله في حمايتهم.. لم ينقضوا على فريستهم ولكنها انقضت عليهم.. فلأبنية بيرزيت هيبتها ورهبتها .. في كل شبر وشارع ورصيف وجدار تجد العزة شامخة ... تجد التحدي ورائحة الثوار التي خطت على جباه جندهم علامات الخوف والقلق .. اقتحموها وكانوا على يقين أنهم لن يخرجوا منها سالمين .. انه مرض عضال أصابهم وكان اسمه بيرزيت .. سيلاحقهم في منامهم وصحوتهم .. كيف لا وبيرزيت لا يدخلها احد كائنا من كان الا وعلمته درسا .. لكن الدرس مختلف هذه المرة لأنهم كائنات غير بشرية .. ستلعنكم بيرزيت أينما حللتم .. ستبقى كما كانت عصية عليكم .. كيف لا وهي قلب فلسطين النابض.
كم أنتِ عظيمةٌ يا بيرزيت الشهداء.. أنت أمانة في أعناقنا سنحافظ عليها ما دمنا أحياء .. سنورث تجربتنا الى أبناء الأبناء.. سننشد معهم "معهد العلم المفدى دم بعز وسلام ... أنت بالأرواح تفدى أيها السامي المقام ...بيرزيت قد غدوت منهلاً للظامئين ... والى العلا سموت ببنيك المخلصين".