عربات جدعون وقمة بغداد، بين التهجير الممنهج والأختبار العربي

الكاتب: مروان أميل طوباسي
في مشهدٍ يعيدنا إلى ذاكرة بدايات النكبة المستمرة ، أعلنت إسرائيل عن انطلاق عملية "عربات جدعون" كأجتياح شامل لقطاع غزة بغطاء أميركي مباشر ، تمهيدا لتفريغ القطاع من سكانه ، ودفعهم نحو رفح تمهيدا لترحيلهم عبر مطار رامون وفق ما سربته وسائل أعلامية ، خاصة بعد تصريحات ويتكوف عن أمتتاع الولايات المتحدة من مطالبة أسراىيل بوقف عدوانها ، وهو الذي فاوض حماس وتنكر لها بشأن ما تم الإتفاق عليه بقضية الإفراج عن الكسندر ، وهو ايضا من لم يلتزم بما جرى من توافقات مع السلطة الوطنية من جهة اخرى وفقا لمبادئ وأخلاقيات السياسات الأمريكية .
هذا المشروع ، الذي تبلورت معالمه في أروقة واشنطن وتل أبيب ، ونال ضوءً أخضر من بعض العواصم الأقليمية ، ليس مجرد عملية عسكرية ، بل حلقة مفصلية في المخطط الصهيوني القائم على التهجير القسري وتصفية الهوية الوطنية الفلسطينية ، عبر استخدام أدوات إقليمية وغطاء إنساني مخادع .
جولة الرئيس الأميركي ترامب للمنطقة التي جرى خلالها استقباله بالصفقات والرقصات لإيجاد مليوني فرصة عمل بالنظام الاقتصادي المأزوم بالولايات المتحدة ، وما تبعها من ضغوط في الرياض وأبوظبي والمنامة ، لم تكن سوى خطوة مدروسة لإعادة تشكيل التحالفات ، وفرض وقائع سياسية جديدة ودول طائفية وكانتونات قومية ، تحت يافطة "الاستقرار" و"إعادة الإعمار"، بينما الحقيقة أن المشروع الأميركي الإسرائيلي يسعى إلى فرض وقائع التهجير والتقسيم والسيطرة من جديد من خلال اعادة رسم خرائط المنطقة ، بتواطؤ بعض الأنظمة وأنكفاء أخرى .
في قلب هذه التطورات ، تأتي قمة بغداد التي تُعقد في لحظة حاسمة ، لا تحتمل الغموض أو الحياد . فإما أن تُشكل القمة منصة لبلورة موقف عربي صلب يرفض الإبادة والتهجير ، ويعيد الأعتبار للقضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني ، أو تتحول القمة إلى منبر لتسويق "مبادرات" أميركية تُجمل الأستسلام وتُشرعن الأحتلال .
اليوم إسرائيل تحاصرها عزلة دولية متزايدة ، واحتجاجات دولية وداخلية، وتراجع في ثقة الجمهور بقدرة جيشها على الحسم . في المقابل ، المنظومة الغربية الأستعمارية، بقيادة واشنطن، بدأت تدرك أن المشروع الإسرائيلي قد بات عبئاً أستراتيجيا لا أداة فاعلة ، إذ فشلت الحرب في تحقيق "الردع"، ووسعت رقعة الصراع بدلاً من أحتوائه.
في المقلب الآخر ، هناك هامش دولي آخذ في التشكل اليوم . الصين وروسيا تتحركان لبناء نظام عالمي متعدد الأقطاب ، بقوة اقتصادية وعسكرية تتصاعد ، تفتح نافذة استراتيجية أمام القوى التحررية والشعوب المقهورة، شريطة أن تُحسن تلك القوى أستثمارها ضمن رؤية وطنية موحدة .
في ظل هذا المشهد ، تظهر بوضوح أدوات المشروع الأميركي الإسرائيلي المتجددة ، ومنها الدور المستحدث لما يُعرف بـ"ذو الإسمين" الجولاني الشرع، الذي أعيد تلميع صورته إقليميا ودوليا، ليُعاد إدماجه في منظومة التطبيع الأمني والسياسي بمشاركة سوريا الى جانب أنظمة الخليج ، كجزء من خارطة السيطرة الجديدة التي تُرسم بعناية ، والى فرض الوصاية السياسية والإقتصادية على لبنان بعدما تعرضت المقاومة فية لضربات ، وما يحدث ضد اليمن ، أضافة الى التهديدات التي يمارسها ترامب بحق مصر والأردن الشقيق لخلق مشاريع الأوطان البديلة والتي تواجه رفضا منهم .
لكن هذا الدور ليس معزولاً عن المسار التاريخي ، فهو امتداد لما بدأ زمن النكبة والتهجير الأول من دور الأنظمة العربية حينها ، ولاحقا من خلال ما سُمي بـ"الربيع العربي"، حيث دُفعت الجماعات الجهادية ، وتنظيمات الإخوان المسلمين الدولية ، إلى الواجهة لتفكيك الدولة الوطنية ، وضرب المجتمعات ، وتدمير ما تبقى من صيغ التضامن القومي . تلك الجماعات ، وبدلًا من مواجهة الأحتلال ، أعادت تعريف "العدو" و"الصديق" وفق مقاييس تتماهى مع الرؤية الأميركية الإسرائيلية ، وساهمت في نقل مركز الصراع من مواجهة إسرائيل إلى نزاعات داخلية طائفية واقامة دويلات ، أنهكت المجتمعات وكسرت بوصلتها السياسية .
إن هذه الأدوات التي ساهمت في تفكيك المشرق العربي ، يُعاد اليوم توظيفها ، بعضها في ثوب "واقعي" جديد ، وبعضها في مشاريع "إدارة مؤقتة" و"إعادة إعمار مشروطة"، لإنتاج حالة من الهدوء القسري وتصفية الحقوق الوطنية لشعبنا بأسم "الأستقرار" و "منطقة الحرية " الزائفة التي يدعو لها ترامب اليوم كجزء من تخبطاته .
ولأن المشهد على هذه الدرجة من التعقيد والخطورة ، فإن الرد الفلسطيني والعربي لا يمكن أن يكون مجرد ردة فعل ، بل يحتاج إلى ارادة فعلٍ سياسي مبادر لا يقوم على الأنتظار ، بل على ركائز أستراتيجية تتمثل في :
١. تثبيت الرؤية الفلسطينية الموحدة، القائمة على وحدة الأرض والشعب والحقوق ، ورفض كل أشكال التقسيم والعزل الجغرافي والسياسي .
٢. إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد ، عبر تفعيل مؤسساتها وتوسيع المشاركة وتجديد الشرعيات في مؤسساتنا من خلال الديمقراطية الأنتخابية ، بعيدا عن الاصطفافات الإقليمية والتدخلات الخارجية ، وباعتبارها جبهة وطنية عريضة تهدف الى التحرر الوطني والتنين بالقرار الوطني المستقل ، حتى تعاد الحاضنة الشعبية لها .
٣. تشكيل اصطفاف عربي شعبي واسع ورسمي في الأطار الممكن من الأنظمة ، يقوم على رفض التطبيع ومشاريع التصفية ، ويعيد الأعتبار للشرعية الدولية وقراراتها كأساس للمطالبة بالحقوق الوطنية غير القابلة للتصرف .
٤. مواجهة المشروع الأميركي الإسرائيلي بأرادة وبخطاب سياسي شجاع ، يفضح النفاق الدولي ، ويعيد تعريف القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني ، لا ملفاً إنسانياً يُدار في مكاتب الإغاثة .
٥. توسيع قاعدة العلاقات مع مناهضي السياسات الأمريكية في كل القارات من الدول والحركات الشعبية ، والإستفاده من التحولات الجارية في عدد من مواقف الدول الأوروبية مثال البيان الصادر أمس عن مجموعة منهم تجاه الاوضاع الجارية في غزة والضفة الغربية بما فيها القدس .
نحن أمام لحظة لا تقل خطورة عن العام ١٩٤٨ تقوم بها دولة الأحتلال الإستعماري بالتوزيع الاستيطاني والضم وإستباحة اراضي كل المدن من خلال قرارات السماح بشرائها وتصعيد التطهير العرقي بالقدس ومخيمات شمال الضفة نحو محاولات تنفيذ وقائع جديدة على الأرض فيها الى جانب المحرقة الجارية في غزة تؤهل لتنفيذ مشروع اسرائيل الكبرى ، بالوقت الذي يتم العمل فيه ليس فقط على إفراغ الدولة الفلسطينية من جوهرها السيادي بل لمنع إقامتها وفق مخططات ترسيم المنطقة .
الا ان هذه الظروف من الضرورة ان تفتح إمكانيات جديدة ، إن توفرت الإرادة السياسية والرؤية التي تقترن ببرنامج وأدوات .
اليوم لم تعد إسرائيل اللاعب الوحيد ، ولم تعد الولايات المتحدة القاضي المطلق . ما يجري اليوم في غزة ، وما يُخطط له في بغداد ، وما يُنسق في العواصم الخلفية ، يضعنا جميعا أمام أمتحان وجودي ، إما أن نكون أو لا نكون .