من "الشباشب" إلى الصواريخ

الكاتب: د. أحمد رفيق عوض
تبدأ الحرب بأطراف وأهداف، وتنتهي بأطراف وأهداف أخرى. هذه هيطبيعة الحرب، التي من نتائجها القريبة والبعيدة تغيير الواقع بواقعجديد، يتم من خلاله توزيع جديد للقوة، وللنفوذ، وللثروة. الحرب وسيلةللتاريخ الأساسية للتغيير، وهي كما قال الشاعر الكبير أحمد شوقي: "والحرب أسر نظام الكون والأمم"، وذلك في رائعاته الخالدة نهج البردة. وهذه ليست تمجيدا للحرب أو تحبيذا لها، ولكنه رصد حقيقي وواقعيلدور الحرب في صناعة التاريخ، وميلاد الأمم أو اندثارها.
وكلامي هذا مدخل للقول إن ما بدأ من حرب في قطاع غزة مع مجموعاتمسلحة تنتعل الشباشب، كما وصفهم بنيامين نتانياهو، وأثارت زوبعة منالسخرية في الصحافة الإسرائيلية، انتهت حتى الآن بتبادل الضرباتالصاروخية والغارات الجوية بين إيران وإسرائيل. وما بدأ بالقضاء علىحركة حماس وتجريدها من أسلحتها، وطرد مقاتليها من قطاع غزة، إلىالنية في القضاء على النظام الإيراني وتجريده من قدراته النوويةوالصاروخية. وما بين الجبهتين والهدفين كانت هناك جبهات أخرى فيالطريق، وأهداف أخرى كذلك.
وهذا يعني ضمن أمور أخرى أن إسرائيل تتذرع بالتهديدات الأمنية التيلا تنتهي - كما يبدو - من أجل تبرير عدوانيتها وتوسعها ورغبتها فيالنفوذ والسيطرة. ويعني ضمن أمور أخرى أن حق إسرائيل في الدفاععن نفسها، تترجمه إسرائيل إلى حقها في ضرب كل دولة أو كيان تعتقدأو تتوهم أنه قد يهددها يوما أو يحلم بذلك. إن تصاعد الحرب وتوسعهابهذه الطريقة، يعني ضمن أمور أخرى أن مظلومية إسرائيل، وصورتهاالتي حاولت ترسيخها في العالم، وحتى لجمهورها، تتهاوى أمام هذاالسعي الحثيث للحرب بذرائع متوهمة أو لمصالح استعمارية أيضا. مماينفي رغبة الجمهور الإسرائيلي بدولة يهودية ديمقراطية، إلى كونها دولةمضطرة للخضوع لشروط التمويل والحماية، رغما عنها.
إسرائيل كيان رفض منذ إقامته حتى اللحظة كل المقترحات والخططلإقامة تسوية تضمن السلام والاستقرار، واختارت هذه الطريق الذيحولت به جمهورها وكيانها إلى كيان محارب طيلة الوقت. ليس هناك كيانمثل إسرائيل، فقد دخلت أكثر من عشرة حروب، وما بينهما، خلال أقل منثمانين سنة. ولا أعتقد أن السنوات القادمة ستكون سنوات استقرارأيضا، ذلك أن ما تخلفه إسرائيل من أوضاع الآن لا يؤسس لسلام علىالإطلاق. فهي تحتل الضفة، والقطاع، والقدس، وجنوب سوريا، وجنوبلبنان، وتضرب كل عاصمة في الإقليم لا تعجبها أو تعتقد أنها تشكلتهديدا لها. فقد ضربت بالطائرات: تونس، وبغداد، والخرطوم، وصنعاء،وبيروت، والآن تضرب طهران، والحبل على الجرار، إذ من الممكن أنتضرب كراتشي أيضاً أو حتى أنقرة، لأن من الممكن أن تطور هاتانالدولتان عقيدة قتالية مناهضة لإسرائيل.
إن هذا التوسع والرغبة فيه، خطر على إسرائيل أولا، قبل أن يكون خطراعلى الإقليم. إذ لا يمكن لكيان أو مجتمع أن يبقى محاربا إلى الأبد، ولايمكن اختراع المخاطر والتهديدات إلى الأبد، ولا السلاح وحده يجلبالسلام أو الاستقرار.
الحرب الآن بين إسرائيل وإيران، تنقل الإقليم كله، وأوروبا، والعالم، إلىمرحلة جديدة من تلك الحرب التي بدأت في السابع من أكتوبر عام2023. الآن نحن أمام حرب قد تتدحرج إلى حرب إقليمية أو ربما عالمية. حرب قد تشعل الأسواق، وتقطع الطرق الدولية، وتغير الأنظمة، أوتسقطها. حرب قد تخرج عن سيطرة إسرائيل، وأمريكا، وأي أطرافأخرى. وإذا كانت إسرائيل تعتمد في حربها هذه على القوى العسكريةبكل مستوياتها، فإن إيران لا تقل عن ذلك صرامة، والتزاما، ورغبة فيالمواجهة. لأن هنا الحرب بالنسبة لها، هي حرب الأرض، والنظام،والأيدولوجيا.
ما بدأ بالشباشب، ينتهي بالصواريخ. وإسرائيل لا تريد أن تقرأ الواقع،أو تراه، لتثبت للمرة الألف أنها عملاق بعقل خفيف جدا. فهي تتورط أكثروأكثر بعبادة إله القوة ورب الجحود، متناسية أن العيش هنا، في هذهالمنطقة، له ضريبة باهظة.