مخطط تفكيك سوريا والاختبار الدرزي في السويداء

الكاتب: نبهان خريشة
هل نبالغ حين نتحدث عن "تقسيم سوريا"؟ ربما. فالخرائط الرسمية لم تتغير بعد، ولا تزال مقاعد دمشق في الأمم المتحدة على حالها. لكن التقسيم الحقيقي لا يبدأ عندما تُسحب المساطر الدبلوماسية وتُرسم حدود جديدة؛ يبدأ حين تتآكل السيادة اليومية، وحين تتحول مساحات واسعة إلى جزر أمنية، وحين تتكفّل الميليشيات بحراسة معابر الظل بينما تبقى الأعلام الرسمية على الجدران للزينة. من هنا، يصبح النقاش عن تفكيك سوريا نقاشًا عن الوقائع المتراكمة لا عن المراسيم. وهنا بالضبط تدخل السويداء إلى المشهد بوصفها مختبرًا حيًا لما قد يتحول، إن تُرك بلا علاج، إلى نموذج كنتوني يتجاوز حدود المحافظة نحو إعادة هندسة الخرائط الإقليمية.
منذ أن أطلق المحافظون الجدد في واشنطن خطاب "الشرق الأوسط الجديد" في العقد الأول من الألفية، والخيال السياسي في المنطقة مهووس بإمكانية إعادة توزيع الكيانات التي أفرزتها سايكس – بيكو. لكن ما طُرح نظريا على مستوى "إعادة الرسم" يتجسّد ميدانيًا اليوم بصيغ أدق: تفكيك مجهري داخل الدول، تقسيم وظيفي للنفوذ، وتعايش لخرائط متوازية—خريطة الدولة المركزية، خريطة النفوذ التركي في الشمال، خريطة الإدارة الذاتية الكردية شرق الفرات، وخريطة التهديدات والرسائل الإسرائيلية الممتدة من الجولان حتى عمق الجنوب السوري. كل خريطة من هذه لا تُعلن نفسها دولة، لكنها تقتطع من فكرة الدولة.
في هذا السياق المركّب، تقدّم الباحثة السياسية د. تمارا حداد قراءة مثيرة للإهتمام: إسرائيل، تقول حداد، لا تنظر إلى الاضطراب الأمني والاجتماعات المتقطعة في محافظة السويداء (بين جماعات درزية، من بينها أنصار الشيخ الهجري، وبين مجموعات بدوية، مع تدخلات متكررة من قوات الأمن السورية) على أنها أحداث محلية عابرة؛ بل تراها نافذة لجرّ سوريا نحو نموذج "الكنتونات" الطائفية والمذهبية. في تقديرها، لا يزال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يحمل طموحًا قديمًا متجدّدًا لتفكيك البيئة السورية إلى وحدات صغيرة يمكن ضبطها أو التلاعب بتوازناتها بما يفوق دقة سايكس – بيكو الأولى. التفتيت الأعمق أسهل إدارةً من مركز قوي.
أخطر ما في هذه المقاربة هو سيناريو "دولة السويداء" أو الكيان الدرزي العازل: نطاق جغرافي يمتد من جنوب سوريا ويتدلّى حتى تخوم شمال فلسطين المحتلة، وربما يلامس جزءًا من الأراضي اللبنانية. الفكرة ليست خيالية بالكامل؛ تاريخ المنطقة مليء بأحزمة أمنية، مناطق عازلة، وترتيبات أهلية قسرية. ما الذي يجعل كيانًا درزيًا كهذا مغريًا لإسرائيل؟ ببساطة: يفصل العمق السوري عن حدودها، يخلق عمقًا دفاعيًا طويل الأمد، ويضع ملف الدروز الإقليمي—من جبل العرب إلى الجولان إلى الجليل والكرمل—تحت مظلة تفاوضية جديدة قد تُستخدم كورقة في صفقات أوسع.
لكن إنشاء حزام كهذا يتطلب بيئة منقسمة، لتعميق الشروخ داخل البيت الدرزي نفسه: معسكر يتمسّك بالبقاء ضمن دولة سورية موحّدة، وآخر منفتح على صيغ تعاون أو تواصل مع إسرائيل، ويُذكر في هذا السياق اسم جماعة الشيخ الهجري، إضافة إلى شخصيات تُنسب إليها صلات بموفق طريف، الزعيم الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل. كلما تفتّت الصف الداخلي، سهل تدوير السلاح، وتضاعفت شرعيات "الحماية الخارجية".
الضغط لا يتوقف عند الحدود الطائفية. الضربات الإسرائيلية المتكررة لمواقع ذات رمزية سيادية في دمشق ومحيطها—سواء استهدفت منشآت عسكرية أو مقار قريبة من مؤسسات عليا—تحمل رسائل متعددة العناوين: إلى النظام السوري، إلى إيران، وإلى تركيا أيضًا. تل أبيب تستخدم هذه الضربات لتذكير أنقرة بأن تمددها العسكري والإداري في الشمال السوري لن يمر دون معايرة مضادة في الجنوب. ما يبدو تبادل رسائل بالنار هو، في جوهره، مفاوضات خشنة على شكل سوريا المقبلة.
ويتقاطع ذلك مع حديث متجدد في بعض الدوائر الأمنية عن "ممر آمن" أو "ممر داوود" تسعى إسرائيل لفتحه أو تأمينه على المدى البعيد لربط حدودها باتجاه الشرق حتى العراق عبر ترتيبات أمنية وسيطة. قد يبدو الطرح طموحًا إلى حد الوهم، لكن تفتيت الدولة المركزية إلى وحدات محلية متنازعة يجعل تمرير مثل هذه التصورات أقل استحالة، خاصة إذا قُدّم الممر بوصفه ضرورة لوجستية أو أمنية في بيئة فوضوية.
كل ذلك يتغذى على عامل جوهري: غياب مبادرة محلية جدّية لاحتواء الاحتقان في السويداء. لا توجد حتى الآن قيادة درزية موحّدة قادرة على التفاوض بندية مع دمشق، ولا إطار جامع يُشعر السكان بأن مخاوفهم الأمنية والاجتماعية مسموعة. الفراغ يولّد وسطاء، والوسطاء يفتحون أبواب التدخل. ما دام لا يوجد عقد داخلي، ستجد إسرائيل—وأي فاعل إقليمي آخر—مبررًا للتدخل "في الزمان والمكان اللذين تختارهما".
لنفهم خطورة اللحظة، يكفي النظر إلى الخريطة السورية الراهنة: الحكومة تسيطر على الشريط الغربي-الوسط (دمشق، الساحل، حمص، حماة) مع جيوب متفاوتة؛ قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكيًا تمسك بشرق الفرات وموارده؛ فصائل معارضة مدعومة تركيًا تدير شظايا الشمال الحدودي؛ وإسرائيل تنفّذ ضربات متواترة بزعم منع التموضع الإيراني. وسط هذا التشظي، أي شرخ جديد—كالسويداء—لا يبقى محليًا؛ بل يصبح قطعة قابلة لإعادة ترتيب اللوحة بأكملها.
إلى أين يمكن أن تذهب الأمور؟ ليس ضروريا أن نشهد إعلان دول جديدة على الفور. على الأرجح أننا سنشهد مرحلة تصعيدات متقطعة وقصف متناوب، تآكل بطيء في مركزية الدولة، وتزايد مناطق رمادية تتحكم فيها سلطات هجينة. هذا المسار، إن تُرك بلا ضوابط، ينتهي بسوريا إلى فسيفساء كانتونية رخوة تخدم، أول ما تخدم، الأمن الإسرائيلي عبر أحزمة فصل وتوازنات طائفية مُدارة عن بعد.
ما العمل إذن؟ ثمة نافذة ضيقة لكبح الانزلاق. المطلوب مسار لامركزي منضبط يمنح صلاحيات محلية ضمن إطار دستوري ومالي موحّد؛ مجالس مدنية جامعة في السويداء تعبر الطوائف وتقلّص احتكار السلاح؛ آليات دمج أو نزع سلاح للمجموعات المسلحة مع حوافز اقتصادية؛ تفاهمات أمنية شفافة مع الجوار تمنع التحول إلى ساحات تصفية حسابات؛ وبرنامج تنموي حقيقي يصل الأطراف بالمركز فلا تبقى السويداء، أو غيرها، رهينة اقتصاد تهريب وسلاح.
قد يقال إن هذه وصفات مثالية في زمن الانهيار. ربما. لكن التاريخ يُظهر أن الفراغ لا يبقى فراغًا؛ وإن لم تُملأ المساحات الطائفية والمؤسساتية محليًا، سيملؤها من يملك المصلحة والسلاح—وفي مقدمتهم إسرائيل التي ترى في الجنوب السوري فرصة نادرة لإعادة صياغة عمقها الأمني وإدارة توازنها مع تركيا وإيران معًا.
السويداء ليست ملفًا جانبيًا. إنها جرس إنذار على جدار سوريا كلّها، وربما على جدار المشرق. تجاهل الرنين الآن يعني الاستيقاظ غدًا على خرائط كانت تعتير في السابق مجرد أساطير.