الحسينُ يبحثُ عن رأسهِ في غزّة

الكاتب: المتوكل طه
***
الفارِسُ النَبويُّ،الذي يركبُ الخيلَ،رغم المسالحِ،
ضاقت به نينوى،فاشترى قَبْرَهُ،
والبلادُ تحاصِرهُ..
-الناسُ أكثرُهم من عبيدِ المراياِ-
وإنْ مُحِّصوا بالبلاءِ،انثنَوا!
لن يرى،في العريضةِ،سيفاً عطوفاً..
فقد هَجَّ مِن حولهِ كلُّ مَن بعثوا في الرسائلِ دمعتَهم،
واغتَنَوا!
إنّه الدِّينُ لَعْقٌ على الشفتينِ،
وماءٌ بسيطٌ على جارحٍ لا يحسُّ،
وعينٌ ترى ما تريدُ،
بعيداً عن الموقدِ المُتقادحِ،
واحمرَّ جفنُ الترابِ الضريرِ!
هنا الطَفُّ حيثُ يحطُّ الرجالُ الرواحلَ،
أو يشهدوا مصرعَ الأولياءِ،
ويُقتلُ سيّدُها في المذابحِ.
قالوا لهُ،وهو يحنو على خوفِ قائلِهِم؛
كنتَ مُحتَبياً بالمُهنَّدِ،فارجِعْ،
أو خَلِّ نَصْلَكَ في الغِمدِ،
وامضِ كما قد نرى،ثُمَّ صالِح.
ولكنّهُ ابنُ أبيها،وسِبْطُ الضياءِ،
وحَيدَرةٌ في الضلوعِ،
فكيفَ،إذاً،لا يُرى السَهمُ في نَحْرهِ،
والحوافرُ في ثوبِهِ،
والدماءُ ترنِّقُ نارَ الجوارحِ؟
لا بأسَ يا ابنَ البتولِ،التي أشْرَقَت بالثباتِ،
يا أوّلَ القَنْطراتِ،
ويا ابنَ النهارِ الذي يفلقُ العتماتِ،
ويا مَن يؤصّلُ جَذْرَ الجذورِ بطينِ المداركِ،
حتى تكونَ لنا غابةً في المَجرّاتِ،
يا مَن يرى في القيودِ سقوطَ البلايا
على لَحمِنا،بالسِّياطِ،
ومَن هبَّ فينا لنحرقَ عَرْشاً يطيشُ
على دمِنا،بالطُغاةِ..
ويا سيّدَ البسطاءِ المساكينِ،
يا رَجْعَ صوتِ الجياعِ،ويا
حفنةَ السُكَّرِ المُرِّ في غَرْغَراتِ القتيلِ
إذا احترقت في اللُّهاةِ!
رَأتْكَ الجموعُ بغزَّةَ،قالوا؛
الحسينُ على صهوةِ السَرْجِ
يبحثُ عن رأسهِ في المَمرّاتِ،
بينَ الجموعِ وبينَ الذبائحِ..
عيناهُ في صَدرهِ تُبْرِقانِ،
وكفّاهُ موجٌ وشمسٌ،
وخطوتهُ تحملُ النَخْلَ،
تغرسهُ حولَ مَن نزحت للبعيدِ،
وتطعمُ منهُ رضيعَ العذارى،
وتسقي بِأندائهِ القُبّراتِ.
وقيلَ بأنّكَ،مع كلِّ أصحابكَ الأقربينَ،
وأبناءِ قلبكَ،والنسوةِ الظامئاتِ،
وسبعين مِمَّن رأوا جدَّكَ المصطفى،
يفردُ النُّورَ في العتماتِ،
وقد مَسَّدَ الظَهْرَ والرأسَ والوجنتينِ،ويدعوكَ
حتى تردَّ على القاتلينَ،بِقَتْلٍ
يعيدُ الموازينَ للخطواتِ..
رأوا أنّكم في لِحاءِ النسيجِ،وبيتِ الرّكامِ،
وقبلَ الأَمامِ،وبعدَ الخيامِ،وخلفَ القَتامِ،
وبينَ السّهامِ،وفوقَ الزّؤامِ،وتحتَ الرَّغامِ،
وفي كلِّ قَصْفٍ وزلزلةٍ وارتطامٍ،
على مدِّ هذا العَجاجِ الكثيفِ،
وفي كلِّ شهقةِ ويْلٍ على شَفَةٍ للنوائحِ..
أو تعصرونَ الشرايينَ كي يشربَ الشَجرُ البِكْرُ،
تمضون نحو المشافي،بِمَدرسةِ النازحين النوائحِ،
ثُمُّ تعيدونَ للدارِ رُكْنَ المَقامِ،
وبرجَ الحَمامِ،
وتعطونَ للبحرِ لُجَّتَهُ للقيامِ،
فيمتدُّ دوّامةً تَسْجرُ البرَّ كي يتطهّرَ
من عرباتِ القبائحِ.
يا أبْلَجَ النَّصْلِ!والباطلُ المُستبدُ،تلجلجَ،
قد كَثُرَ الواقفونَ على التلِّ،
لم ينصروا اللهَ في كربلاءَ..
وبعضُ الأقاربِ كانوا عبيداً لِظِلٍّ بغيضٍ،
فَراحوا إلى لَعنَةٍ في الوراءِ،
وما دافعوا عن وضوحِ السماءِ،
ولم يدفعوا،عن رضيعِ الرّبابِ،الهباءَ،
ولكنَّ صحبيَ،إذ لمحوا أخوةً في الحِمامِ،
أعادوا إلى النَجْمِ وَمْضَ الرُعودِ،
وأعطوا الخلائقَ قَنطرَةً للعبورِ إلى مائِها في الفراتِ..
هنالك كانَوا..
سيأتون..فَالنّبعُ مِسْكٌ يفورُ،
تهاطلَ من سحجاتٍ تدفُّ بأزهارِها السائحات..
هنا أو هناكَ؛سيبدأُ فردوسُ مَن سيّجوا الأرضَ،
من رفحٍ في العراقِ،إلى الطَفِّ في خانيونسَ،
بالرَّاجماتِ..
هنا تمّمَ المُرسَلونَ صحائفَهم،
حول كعبةِ مَن فقدت كلَّ شيءٍ،
وتقبضُ في قلبِها جَمرةَ الثاكلات..
هنا كتبوا مصحفَ النَّصْرِ،
خطّوا النهايةَ،حتى يعودَ المُشَظّى على كلِّ رُمحٍ،
إلى عَطشٍ حارقٍ،ثُمّ يقضي كما لوَّحتهُ النِّصالُ،
ويكتبَ،ثانيةً،سيرةَ الظامئين،الذين ارتووا
بالوريدِ،وداسَت خيولٌ على حَبَقِ الطاهرات..
هنا،بين لَفْحِ الزوابعِ،جاءَ الحسينُ،رأى أنّ وقْعةَ مَقْتَلهِ،
لا تكادُ تناظرُ ما يلتقيه،فغزّةُ مليونُ طَفٍّ،
وأعني؛ترمّدَ وجهُ الصحابةِ والتابعينَ،
وصدرُ الروايةِ والعارفين،
وريشُ الشهادةِ والصاعدين،
وسَهلُ الذي لم يبدّلْ،
وأبقى على حلقاتِ البقاءِ،
ويحمى الحِمى والجوامعَ،والقمحَ
إن غابَ في ذارياتِ الطحين..
سيركبُ،ثانيةً،موكبَ الغارِ،
قد لا يعودُ،ولكنّه وجَدَ العائدينَ
إلى سورةِ الأرضِ،في عسقلانَ،
وأدرَكَ أنّ الوجوهَ التي أشرقتْ،حملتْ قلبَه للمتاريسِ،
كي تترسَّمَ خطوَ الأمين،
وتبقى على حالها،المورياتُ،
لتقدحَ في فضّةِ العاديات..
وما قتلوه،وما جَزَّروا عُنُقَ المستحيلِ،
هو الآنَ كلُّ البلادِ،التي ضفّرَت شَعْرها باللهيبِ،
ويعطي السحائبَ ألوانها الباذخات،
وما زالَ مثلَ أبيه؛على هيئةِ الباشقِ الفَذِّ..لم يترجّلْ،
يُصلّي مع الشهداءِ،إماماً..وإنْ غابَ،ما مات.
قالوا؛سيعلنُ من أرضِ غزَّةَ أنَّ لها أخوةً،
دونَ أهلٍ ونَهرٍ،فَلن يرتوي أحدٌ
بعد هذا الحريقِ المُرابي،
وأنَّ الشهيدَ توالدَ من نخلةٍ إثْرَ أخرى،
ولم تتعبِ الأُمّهات..
لقد عاد،حتى يجلّي الحقيقةَ،
سوفَ يقولُ على دَرَجِ النَصْرِ؛
إنّي أتيتُ لآخذَ رأساً عليّاً،
وأزهو به عندَ حوضِ الحبيبِ،
لترضى الفواطمُ والنائحات.
***
وما زالت الطَفُّ تشهدُ ذَبْحَ العَجيِّ،
وقَنْصَ الوصيِّ وموتَ الوَليِّ وقتْلَ البنات..
وما زال رأسُ الحسينِ يدحرجُ هذا السعيرَ،
ليبلغَ آخرَ ليلٍ بهيمٍ،
وتشرقَ غُرَّتُهُ في الجهات.