لماذا قد لا تعترف بريطانيا بالدولة الفلسطينية؟

الكاتب: نبهان خريشة
رغم إعلان رئيس الوزراء البريطاني "كير ستارمر"عن نيّته الاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال اجتماعات الأمم المتحدة في أيلول المقبل، إلا أن هذا الإعلان قد لا يتجاوز كونه أداة سياسية للضغط على إسرائيل أكثر من كونه قراراً نهائياً وملزماً. بريطانيا، كدولة حليفة تقليدية للولايات المتحدة ومرتبطة بعلاقات وثيقة مع إسرائيل، قد تتردد في اتخاذ خطوة من هذا الوزن دون تنسيق تام مع واشنطن، التي ما تزال ترفض الاعتراف بالدولة الفلسطينية خارج إطار "حل تفاوضي"! ومن جانب آخر فإنه من المؤكد أن إسرائيل ستضغط بشدة على بريطانيا للتراجع عن الاعتراف، وقد تستخدم نفوذها السياسي والإعلامي داخل بريطانيا لهذا الغرض..
جماعات الضغط اليهودية المؤيدة لإسرائيل تتمتع بتأثير واضح في دوائر صنع القرار في بريطانيا، خصوصاً من خلال شبكات منظمة داخل الأحزاب السياسية الكبرى مثل "أصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين" و"أصدقاء إسرائيل في حزب العمال"، حيث تعمل هذه الشبكات على بناء علاقات قوية مع النواب والمسؤولين وتسهيل زياراتهم لإسرائيل، بما يعزز رواية الاحتلال في الأوساط السياسية البريطانية. ويمتد تأثير هذه الجماعات إلى تعطيل تحركات دبلوماسية، من أبرزها الضغط المستمر على الحكومات البريطانية المتعاقبة لمنعها من الاعتراف بالدولة الفلسطينية. فعلى الرغم من تنامي الدعوات داخل البرلمان البريطاني ومن قطاعات واسعة من المجتمع المدني والسياسي للاعتراف الرسمي بفلسطين، إلا أن الحكومات البريطانية ظلت تتردد، جزئياً بسبب الضغوط المباشرة وغير المباشرة التي تمارسها هذه الجماعات على صناع القرار.
من جهة أخرى فإن الاعتراف البريطاني بالدولة الفلسطينية قد يفتح باباً غير مرغوب فيه من الناحية القانونية والمالية. إذ أن الفلسطينيين قد يطالبون بريطانيا بإعادة الأرصدة الفلسطينية التي كانت مودعة لدى "سلطة النقد الفلسطينية" إبان الانتداب البريطاني على فلسطين، وهي ودائع مؤسسات فلسطينية وأفراد، وأرصدة تجارية واستثمارية، والتي قُدّرت بحلول عام 1948 بنحو 138 مليون جنيه فلسطيني – وبمرور الوقت، تراكمت على هذه الأموال فوائد ضخمة، وأعيد احتساب قيمتها الحقيقية وفق معايير مالية واقتصادية حديثة، افادت بأن الحديث يدورعما يفوق الـ 70 مليار دولار. هذا الرقم، إذا ما تم تأكيده وتثبيته قضائيًا، يمثل قنبلة مالية موقوتة تهدد الحكومة البريطانية، خصوصًا في ظل التدهور الاقتصادي المزمن الذي تعاني منه البلاد، والضغوط المالية على ميزانيتها العامة.
إن الاعتراف البريطاني الرسمي بدولة فلسطين، إذا ما تم، لا يحمل فقط دلالات سياسية وأخلاقية، بل يرتّب التزامات قانونية مباشرة. فبمجرد أن تصبح فلسطين كيانًا معترفًا به رسميًا من قبل بريطانيا، يكتسب هذا الكيان صفة "الجهة القانونية المخولة" التي كانت لندن تفتقر إليها كمبرر لتجميد الأموال. وبذلك، فإن الدولة الفلسطينية ستكون مخولة قانونيًا للمطالبة بأموالها المجمدة، وقد تلجأ إلى التحكيم الدولي أو إلى القضاء البريطاني نفسه لاستردادها. ومن هنا، يمكن أن نفهم جانبًا غير منظور من الموقف البريطاني المائع والمراوغ تجاه ملف الاعتراف بفلسطين. فالمسألة لم تعد متعلقة فقط بالمجاملات السياسية والاصطفافات الديبلوماسية، بل ترتبط أيضًا بمصالح مالية ملموسة وبمخاطر قانونية كبرى. ومما يزيد الطين بلة لبريطانيا أن هذه الأموال ليست مجهولة المصدر أو مثار خلاف على ملكيتها، بل هناك سجلات وأدلة ووثائق محفوظة، سواء في الأرشيف البريطاني أو في مؤسسات مالية دولية، تؤكد وجودها.
بعض الخبراء القانونيين البريطانيين أنفسهم أشاروا في مقالات وتقارير متخصصة إلى أن الاعتراف بدولة فلسطين سيُسقط آخر الذرائع القانونية التي استخدمتها الحكومة البريطانية لتجميد الأموال، وسيُمهّد الطريق لمعارك قضائية قد تكسبها فلسطين بسهولة، إذا ما توفرت لها الأدوات القانونية والسياسية المناسبة. وفي ظل تنامي الضغط الدولي على بريطانيا لتوضيح موقفها من الملف الفلسطيني، فإن تجاهل هذه القضية لم يعد ممكنًا، وقد يجد طريقه إلى الإعلام والمؤسسات الحقوقية، ما سيزيد الضغط أكثر على صناع القرار في لندن.
المفارقة أن بريطانيا، التي لعبت دورًا محوريًا في نكبة الشعب الفلسطيني من خلال "وعد بلفور" ومن ثم الانتداب الذي أسّس لبنية الاحتلال وإقامة دولته، تجد نفسها اليوم رهينة لميراثها التاريخي. فقرار لم يُتخذ بعد في شأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، مرهون ليس فقط باعتبارات السياسات الآنية، بل بمخاوف من أن تعود الأشباح الاقتصادية لما قبل 1948 لتقضّ مضاجع الخزانة البريطانية.
وإذا كانت بعض الحكومات الأوروبية قد بدأت تقترب من الاعتراف بفلسطين لأسباب أخلاقية وإنسانية وسياسية، فإن بريطانيا تبدو أكثر حذرًا، لأنها تعلم أن هذا الاعتراف سيفتح عليها أبوابًا مغلقة منذ أكثر من 75 عامًا، لا تريد أن تُفتح. ربما لهذا السبب، تبقى لندن مترددة، تارة تختبئ وراء "ضرورة التوافق الدولي"، وتارة تتحدث عن "حل الدولتين"، لكنها لا تتخذ خطوة الاعتراف التي تطالب بها الأغلبية الساحقة من برلمانييها، وقطاعات واسعة من شعبها.
وكما قلنا سابقا، فإنه يمكن النظر إلى إعلان رئيس الوزراء البريطاني "ستارمر" عن نيته الاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال اجتماعات الأمم المتحدة المقبلة في أيلول، باعتباره ورقة ضغط دبلوماسية أكثر منه التزامًا سياديًا نهائيًا. فمثل هذا الإعلان، في توقيت بالغ الحساسية، يبدو موجّهًا بالدرجة الأولى إلى إسرائيل بهدف دفعها إلى السماح بإدخال المزيد من المساعدات إلى غزة ووقف آلة الحرب التي فاقت كل حدود التدمير والعقاب الجماعي. إنه أقرب إلى خطاب تكتيكي لاختبار ردود الفعل، منه إلى قرار سياسي ناضج ومكتمل الأركان.
إعتراف بريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية، إذا حصل، لا ينبغي أن يكون خطوة رمزية لتلميع صورتها أمام جماهيرها الغاضبة من المذابح الإسرائيلية فقط، بل يجب أن يقترن بإجراءات ملموسة، وأولها فرض عقوبات سياسية واقتصادية وعسكرية على إسرائيل التي تمارس جريمة الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة. فما جدوى الاعتراف بدولة لا وجود لها على الأرض، ولا سيادة لها، وربما لن تقوم في القريب العاجل، إن لم يكن أبداً، بينما يستمر القتل والتجويع والحصارومحاولات التهجير؟ هل سيوقف الاعتراف المجرد شلال الدم أو يمنع الجوع الذي ينهش أجساد الأطفال والمرضى وكبار السن؟!!
في المحصلة، فإن التحرك الأخلاقي الحقيقي ليس في إصدار بيانات دبلوماسية رنانة أو رفع التمثيل الفلسطيني في عواصم الدول التي قد تعترف بفلسطين كدولة من ممثيات الى سفارات، بل في الضغط العملي الذي يدفع إسرائيل لوقف عدوانها، وإجبارها على الانصياع للقانون الدولي. وإلا فإن الاعتراف سيبقى ورقة سياسية للاستهلاك الداخلي، فيما تبقى غزة تنزف، والاحتلال يتمدد بلا ثمن يدفعه.