الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 5:02 AM
الظهر 12:34 PM
العصر 4:04 PM
المغرب 6:49 PM
العشاء 8:05 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

فشل إسرائيل في صهر اليهود في بوتقة قومية واحدة

الكاتب: نبهان خريشة

منذ نشأة المشروع الصهيوني في أواخر القرن التاسع عشر، حمل مؤسسوه فكرة مركزية تقوم على إنشاء "قومية يهودية" جامعة، تكون بديلاً عن الانتماءات المتشعبة التي حملها اليهود في المنافي الممتدة من أوروبا الغربية والشرقية، إلى روسيا، مرورا بالبلدان العربية والإسلامية، وصولاً إلى أمريكا اللاتينية وأفريقيا. الفكرة الجوهرية للصهيونية كانت أن "اليهود شعب واحد" له تاريخ ودين ومصير مشترك، وأن إقامة "وطن قومي" في فلسطين كفيلة بتحويل هذا التجمع الديني الموزع في أصقاع الأرض إلى "أمة حديثة" تشبه الأمم الأوروبية القومية التي تشكلت في القرن التاسع عشر. غير أن التجربة الممتدة لأكثرمن سبعة عقود منذ إعلان قيام إسرائيل عام 1948، تكشف بوضوح عن فشل هذه الرؤية في صهر اليهود المهاجرين في بوتقة قومية واحدة.

وحين فشل مشروع الصهر لجأت اسرائيل الدولة إلى آلية قانونية لتعويض العجز الأيديولوجي، فكان سنّ "قانون القومية اليهودية" عام 2018 تتويجاً لمحاولة فرض هوية موحدة من فوق، بقرار سياسي لا بآليات اجتماعية . هذا القانون أعلن أن إسرائيل هي "الدولة القومية للشعب اليهودي"، مانحاً امتيازاً حصرياً لليهود على حساب المواطنين الآخرين، ومكرساً بنصوصه الطابع العرقي للدولة. بذلك، لم يعد التعايش أو الانتماء المدني معياراً للمواطنة، بل الانتماء الديني، رغم أن اليهودية نفسها هي دين وليست قومية.

والحقيقة أن تحويل الدين إلى قومية يكشف أزمة أعمق في المشروع الصهيوني. فالقوميات عادة ما تقوم على اللغة المشتركة، والتاريخ المتواصل، والذاكرة الجمعية الممتدة في أرض معينة. أما اليهود القادمون من عشرات اللغات والثقافات المختلفة فجمعتهم الفكرة الدينية فقط، لا الثقافة أو التاريخ أو الجغرافيا. ولذا فإن اللجوء إلى قانون "القومية" لم يكن تأسيساً لهوية جديدة، بل إقراراً صريحاً بفشل مشروع الصهر واعترافاً بأن المجتمع الإسرائيلي لا يزال فسيفساء متنافرة، تحتاج دوماً إلى عصا القانون لفرض تماسكها الشكلي. هكذا يتحول القانون إلى جدار جديد، لكنه هذه المرة ليس بين اليهود والعرب فحسب، بل بين إسرائيل ذاتها وبين قدرتها على بناء هوية قومية طبيعية ومستقرة.

اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين لم يكونوا جماعة متجانسة تحمل لغة واحدة أو ثقافة واحدة أو تقاليد مشتركة. على العكس، فقد جاؤوا من بيئات متباينة إلى حد التناقض أحياناً. اليهود القادمون من أوروبا الشرقية حملوا معهم تراث "اليديش" وذاكرة الاضطهاد الروسي والبولندي، بينما جلب القادمون من ألمانيا وفرنسا ثقافة أوروبية برجوازية أكثر تحرراً. أما اليهود الشرقيون (السفارديون والمزراحيم) القادمون من بلدان عربية وإسلامية مثل العراق والمغرب واليمن ومصر، فقد حملوا معهم تقاليد عربية-إسلامية متجذرة، من الطعام واللباس والموسيقى، وصولاً إلى أنماط الحياة الاجتماعية.

هذا التعدد لم يُذُب في إطار "هوية إسرائيلية" واحدة، بل ظل قائماً، بل وتعمّق مع مرور الوقت. فالأحياء السكنية والمدارس وحتى المعابد الدينية في إسرائيل غالباً ما تعكس الانتماء الإثني للبلد الأم، وتعيد إنتاج الخصوصيات الثقافية القديمة. بل إن المطبخ الإسرائيلي المزعوم مثلا لا يعدو كونه تجميعاً متجاوراً لمأكولات مهاجرين من شتى أصقاع الأرض، دون أن يتحول إلى هوية ذوقية مشتركة.

تقوم الفكرة الصهيونية على محاكاة التجربة الأمريكية التي تبنت "البوتقة" كرمز لصهر المهاجرين من أوروبا في هوية أمريكية موحدة. غير أن هذه المحاكاة كانت سطحية، إذ أن الولايات المتحدة استطاعت – ولو جزئياً – خلق هوية جامعة عبر مؤسسات سياسية ديمقراطية واسعة، ولغة إنجليزية مشتركة، واقتصاد صناعي جاذب. أما إسرائيل فقد افتقرت إلى تلك القواسم الجامعة. اللغة العبرية التي أحياها المشروع الصهيوني لم تستطع محو اللغات الأصلية بسهولة؛ فما زالت اليديشية والروسية والفرنسية والإسبانية والعربية تُستخدم داخل البيوت والمجتمعات الخاصة. أما المؤسسات السياسية، فهي مشبعة بالهيمنة الأوروبية-الأشكنازية التي أقصت الشرقيين لعقود طويلة.

لقد سعت الدولة العبرية في خمسينيات القرن الماضي إلى فرض "التذويب" بالقوة عبر مدارس داخلية وسياسات إقصائية ضد المهاجرين الشرقيين، لكنها اصطدمت بحقائق اجتماعية وثقافية عصية على المحو. وهكذا فإن ما كان يُراد له أن يكون "أمة يهودية جديدة" تحول في الواقع إلى فسيفساء متنافرة من الجماعات، تعيش في إطار دولة واحدة دون أن تشارك جميعها في هوية وطنية صلبة.

فشل الصهر الثقافي ترافق مع تراتبية اجتماعية واقتصادية كرست الانقسام أكثر فأكثر. فاليهود الأشكناز، القادمون من أوروبا الغربية والشرقية، سيطروا على مفاصل الدولة ومؤسساتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، بينما وُضع اليهود الشرقيون في قاع السلم الاجتماعي، وعانوا من الفقر والتهميش والعنصرية الممنهجة. هذا التمييز البنيوي رسّخ شعوراً بالاغتراب لدى الشرقيين، الذين لم يشعروا يوماً أنهم جزء متساوٍ في "الأمة الإسرائيلية".

الأمر لم يتوقف عند الشرقيين، بل إن موجات الهجرة اللاحقة من الاتحاد السوفييتي السابق أضافت طبقة جديدة من الانقسام. فاليهود الروس – الذين هاجروا بمئات الآلاف في تسعينيات القرن الماضي – لم يندمجوا بالكامل، وما زالت أحياؤهم ومؤسساتهم الثقافية والسياسية منفصلة نسبياً، مع تمسك واضح بلغتهم وثقافتهم الروسية. وينطبق الأمر على يهود إثيوبيا (الفلاشا) الذين يعانون تمييزاً مضاعفاً على خلفية عرقية ودينية، وهو ما يولد توترات اجتماعية متكررة.

ما يظهر بجلاء هو أن هذه الخصوصيات الإثنية لم تتحول إلى تنوع إيجابي يثري الهوية الإسرائيلية، بل إلى جدران فاصلة تفصل بين المكونات المختلفة. الانتخابات الإسرائيلية نفسها تكشف ذلك؛ إذ أن التصويت غالباً ما يعكس الانتماءات الإثنية والدينية. فالأحزاب الشرقية لها قاعدتها الشعبية الخاصة، والأحزاب الروسية تعتمد على ناخبين روس، بينما يظل الأشكناز في صدارة الأحزاب الحاكمة. هذه الفسيفساء الحزبية والسياسية لا تعكس حيوية ديمقراطية بقدر ما تعكس انقسامات عميقة تعجز عن التبلور في مشروع قومي جامع.

إن فشل الصهر لا يعني مجرد تعددية ثقافية، بل يحمل تداعيات استراتيجية على مستقبل إسرائيل. فالأمم التي تتماسك طويلاً هي تلك التي تنجح في بناء هوية مشتركة تتجاوز الأصول المتنوعة لمواطنيها. أما في الحالة الإسرائيلية، فإن غياب هذه الهوية الجامعة يجعل المجتمع عرضة للتفكك الداخلي، خصوصاً عند لحظات الأزمات الكبرى. فالشرقي الذي يشعر بأنه مواطن من الدرجة الثانية قد لا يرى مصلحته في الدفاع عن دولة تهمشه، والروسي الذي يعيش في "غيتو ثقافي" خاص قد لا يربط مستقبله بمستقبل الكيان ككل، والفلاشا الذين يتعرضون للتمييز العنصري المباشر قد يجدون في الاحتجاج والتمرد سبيلاً وحيداً لإثبات وجودهم.

عادة ما يُنظر إلى التهديدات الوجودية لإسرائيل من زاوية الصراع العربي-الفلسطيني أو التحديات الإقليمية. لكن الحقيقة أن أحد أخطر التهديدات يأتي من الداخل، من عجز المشروع الصهيوني عن خلق "شعب إسرائيلي" متجانس. فالمجتمع الإسرائيلي اليوم ليس سوى تحالف هش بين جماعات إثنية وثقافية ودينية متنافرة، يجمعها الخوف من الآخر الخارجي أكثر مما يجمعها شعور بالانتماء المشترك. وما أن يضعف هذا الرابط القائم على الخوف حتى تطفو على السطح التناقضات الداخلية الكامنة.

بعد أكثر من سبعين عاماً على قيام إسرائيل، يتضح أن المشروع الصهيوني قد فشل في تحقيق أحد أهم أهدافه: تحويل اليهود من جماعات مشتتة إلى أمة متجانسة. فالتاريخ، والثقافة، واللغة، والعادات، وحتى الطعام، ظلّت جميعها شاهداً على التعددية غير القابلة للذوبان. والأهم أن هذه التعددية لم تتحول إلى فسيفساء متناغمة، بل إلى خطوط صدع قابلة للإنهيار في أي لحظة. وإذا كان الكيان قد استطاع حتى الآن التماسك بفعل الدعم الغربي الهائل والخطر الخارجي، فإن العوامل الداخلية تبقى القنبلة الموقوتة التي تهدد مستقبله. وربما يكون انهيار المشروع الصهيوني في النهاية نابعاً من داخله، من فشله في أن يصبح "دولة-أمة" بحق، لا مجرد كيان يجمع مهاجرين لا يوحدهم سوى ظرف سياسي عابروتهديد وجودي. 

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...