الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 5:07 AM
الظهر 12:31 PM
العصر 3:59 PM
المغرب 6:40 PM
العشاء 7:55 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

صراع التيارات الدينية والعلمانية في إسرائيل

الكاتب: نبهان خريشة

في إسرائيل يتجلى الانقسام الداخلي بأوضح صوره في الصراع المتصاعد بين التيارات الدينية والعلمانية، وهو صراع ليس سطحياً أو عابراً بل يمتد إلى عمق الهوية والشرعية السياسية والفكرية لمشروع الدولة ذاته. فمنذ قيام إسرائيل عام 1948 وهي تعيش على معادلة هشة: تقديم نفسها كدولة يهودية من جهة، وكدولة ديمقراطية حديثة من جهة أخرى. لكن هذا التوازن لم يعد ممكناً مع تصاعد قوة التيارات الدينية الأصولية وتراجع قوة اليسار والوسط، ما جعل الهوة بين التيارين الرئيسيين – الديني والعلماني – أكثر وضوحاً وحدة، حتى باتت تهدد النسيج الداخلي للمجتمع الإسرائيلي ومستقبله على المدى البعيد.

التيار العلماني الإسرائيلي يضم في صفوفه شرائح واسعة من اليهود القادمين من أوروبا الغربية وروسيا ومن النخب الاقتصادية والثقافية التي ترى في إسرائيل دولة حديثة يجب أن تسير على خطى الغرب في قيم الديمقراطية والليبرالية الفردية والانفتاح. هؤلاء يريدون حياة طبيعية بعيدة عن التوترات الأيديولوجية المتصلة بالدين، ويريدون دولة تضمن لهم الحرية الشخصية، وتفصل المجال العام عن التعاليم الدينية الصارمة. بالنسبة لهم، إسرائيل يجب أن تكون ملاذاً قومياً لليهود، ولكن في إطار مدني حديث لا يجعل الشريعة اليهودية مرجعية عليا.

على الطرف المقابل يقف التيار الديني الأصولي الذي يزداد قوة ونفوذاً، ويمتد من الأحزاب الحريدية التقليدية إلى التيارات الدينية – القومية التي ترى أن إقامة إسرائيل ليست مجرد مشروع سياسي بل تجسيد لوعد إلهي لا يجوز المساس به أو إخضاعه لمنطق المصالح الحديثة. هذا التيار لا يكتفي بالمطالبة بالحفاظ على الطابع اليهودي للدولة، بل يريد أن تُحكم إسرائيل بالشريعة اليهودية، وأن تخضع تشريعاتها وسياساتها لمقولات التوراة والتلمود. بالنسبة لهم، كل محاولة لفصل الدين عن الدولة هي خيانة للمشروع الصهيوني – الديني، وكل تساهل مع قيم العلمانية هو تهديد لجوهر وجود إسرائيل.

هذه الهوة ليست جديدة لكنها ازدادت اتساعاً خلال العقود الأخيرة. في السنوات الأولى لقيام الدولة، هيمن التيار الصهيوني الاشتراكي – العلماني على الحياة السياسية، فيما كان التيار الديني محصوراً في الهامش ومحصوراً في دور رمزي أو خدماتي، مثل إدارة الأحوال الشخصية والتعليم الديني. لكن مع مرور الوقت تغيرت الموازين: تراجع اليسار إلى درجة الانكماش، وانهارت قوة أحزاب الوسط، فيما صعد اليمين القومي والديني ليصبح المهيمن على السياسة الإسرائيلية.

تحول حزب الليكود بقيادة نتنياهو إلى المحرك الرئيس لهذا التحول. فالليكود الذي كان تاريخياً يمثل اليمين الليبرالي المحافظ الذي يؤمن بالاقتصاد الحر والانفتاح على الغرب، اندمج تدريجياً مع الأجندة الدينية – القومية المتطرفة. وبات الحزب يعتمد بشكل متزايد على دعم الأحزاب الدينية الحريدية والقومية المتطرفة لضمان بقاء ائتلافاته الحكومية، ما جعله رهينة لمطالب هذه التيارات التي تسعى إلى تكريس الطابع الديني للدولة وإضعاف أسس الديمقراطية الليبرالية.

المجتمع الإسرائيلي يعيش اليوم أزمات متلاحقة نتيجة هذا الانقسام. العلمانيون يرون أن حياتهم تُقيد أكثر فأكثر تحت ضغط الأحزاب الدينية التي تفرض قيوداً على قضايا مثل المواصلات العامة أيام السبت، والزواج المدني، والمناهج التعليمية، وحتى الفضاء الثقافي. بالمقابل، يرى المتدينون أن أي تنازل أمام العلمانية هو تنازل عن هوية الدولة، وأن محاولة "تطبيع" إسرائيل لتصبح دولة غربية عادية هو في حقيقته نزعٌ لروحها الدينية التي قامت عليها.

انعكست هذه التوترات على شكل احتجاجات ضخمة، كما حصل في السنوات الأخيرة عندما حاولت حكومة نتنياهو الدفع بإصلاحات قضائية اعتُبرت محاولة للسيطرة على القضاء وتفكيك ما تبقى من مؤسسات الضبط الديمقراطي. العلمانيون خرجوا إلى الشوارع بمئات الآلاف للدفاع عن الديمقراطية، بينما وقفت القوى الدينية واليمينية خلف الحكومة باعتبار أن القضاء كان عقبة أمام تمرير مشاريعهم الأيديولوجية، سواء في ما يتعلق بالاستيطان أو بفرض الطابع الديني على التشريعات. هذه المواجهة لم تكن مجرد خلاف سياسي عابر، بل كانت تعبيراً عن أزمة عميقة حول هوية إسرائيل نفسها: هل هي دولة يهودية دينية أم دولة يهودية ديمقراطية؟

الأخطر أن هذا الانقسام ينعكس على بنية الجيش نفسه، وهو المؤسسة التي طالما اعتُبرت صمام أمان للمجتمع الإسرائيلي. فبينما يرى الجنود والضباط القادمون من الأوساط العلمانية أن الجيش مؤسسة "وطنية" جامعة، ينظر إليه أبناء التيارات الدينية – القومية باعتباره أداة لتحقيق مشروع التوراة في "أرض إسرائيل الكاملة"، ويعتبرون الخدمة العسكرية جزءاً من رسالة دينية. أما الحريديم فيرفضون التجنيد أصلاً بدعوى التفرغ للدراسة الدينية، وهو ما يثير نقمة شديدة في صفوف العلمانيين الذين يرون أنفسهم يتحملون عبء الدفاع عن الدولة وحدهم بينما يتمتع المتدينون بإعفاءات وامتيازات.

كما يظهر التباين في النمو الديمغرافي. فالمجتمع الحريدي ينمو بوتيرة أسرع بكثير من باقي مكونات المجتمع الإسرائيلي بسبب معدلات الولادة المرتفعة، ما يعني أن وزنه السياسي والاقتصادي سيزداد في المستقبل القريب. هذا التحول الديمغرافي سيزيد من حدة الصراع مع التيار العلماني الذي يخشى أن يجد نفسه أقلية مهمشة في دولة تتحول تدريجياً إلى كيان ديني أصولي.

من جهة أخرى، يصب البعد الاقتصادي مزيداً من الزيت إلى النار. فشرائح واسعة من المتدينين الحريديم لا يشاركون بفاعلية في سوق العمل، ويعتمدون على الإعانات الحكومية وعلى دعم الدولة لمدارسهم الدينية، وهو ما يثير استياء العلمانيين الذين يدفعون الضرائب ويعتبرون أنفسهم الممولين الحقيقيين لامتيازات هذه الفئة. هذا الشعور بالظلم الاقتصادي يتداخل مع الشعور بالاغتراب الثقافي والسياسي، ليخلق مزيجاً قابلاً للانفجار في أي لحظة.

إن استمرار هذا الصراع بين التيار العلماني الساعي إلى بناء دولة طبيعية، والتيار الديني الأصولي الساعي إلى فرض الشريعة اليهودية، يضع إسرائيل أمام مفترق طرق تاريخي. فإذا مضت الدولة في طريق تكريس هيمنة الدين، فإنها ستفقد تدريجياً صفتها كدولة ديمقراطية حديثة وستصبح دولة ثيوقراطية مغلقة لا تجذب سوى فئة محددة من اليهود. أما إذا حاولت الحفاظ على الطابع الديمقراطي الليبرالي، فإن ذلك سيعني صداماً متواصلاً مع التيارات الدينية التي ترفض التنازل عن مشروعها الأيديولوجي.

في كلتا الحالتين، يبدو أن إسرائيل تسير نحو مزيد من الانقسام الداخلي. فالهوة الفكرية والثقافية والديموغرافية بين التيارين آخذة في الاتساع، وليس هناك مشروع جامع يمكن أن يردم هذه الفجوة. ومع تراجع اليسار إلى حد التلاشي، أصبح المشهد السياسي مرهوناً لصراع لا ينتهي بين معسكرين متناقضين لا يجمعهما سوى الخوف المشترك من المحيط الخارجي. هذا الخوف كان في الماضي هو ما يحفظ تماسك إسرائيل، لكن مع مرور الوقت لم يعد كافياً لتغطية الشروخ العميقة في الداخل.

وعليه، فإن الانقسامات بين التيارات الدينية والعلمانية في إسرائيل ليست مجرد تباين في الرؤى، بل هي عامل أساسي قد يقود إلى تفككها من الداخل. فالمجتمع الذي يعجز عن التوافق على تعريف مشترك لهويته، هو مجتمع مهدد بالانهيار مهما بدا في الخارج متماسكاً أو قوياً. إسرائيل التي طالما قدّمت نفسها كدولة ديمقراطية وحديثة تواجه اليوم امتحاناً وجودياً قد يكون أخطر عليها من أي تهديد خارجي، لأن التفكك الداخلي غالباً ما يكون أعتى من الحروب.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...