السويد وإعادة هندسة المشهد التربوي: قراءة استراتيجية لمرحلة ما بعد الاندفاع الرقمي
الكاتب: د. ياسر أبوبكر
قرار السويد بالعودة إلى الكتاب الورقي بعد خمسة عشر عامًا من التجريب الرقمي لا يمكن فهمه كاستثناء، بل كإعادة ضبط استراتيجية لمسار تعليمي تجاوز حدوده. فقد أظهرت البيانات التراكمية، وعلى رأسها نتائج PIRLS - الدراسة الدولية لقياس الفهم القرائي لدى طلبة الصف الرابع - أن الأطفال السويديين يسجّلون تراجعًا واضحًا في مهارات القراءة العميقة، وهي المهارة التي تُعد مؤشرًا رئيسيًا لجودة النظام التعليمي وقدرته على بناء متعلم قادر على التحليل والمعالجة.
لم يأتِ هذا التراجع من فراغ ، فقد كشفت أبحاث علم الأعصاب المعرفي أن الكتابة اليدوية تعزز مناطق دماغية مسؤولة عن الذاكرة والانتباه والتنظيم المعرفي، بينما يحدّ الاعتماد المفرط على القراءة عبر الشاشات من تفاعل تلك الشبكات ويؤدي إلى تشظّي الانتباه. أمام هذه المعطيات، أدرك صانع القرار السويدي أن الرقمنة الشاملة - رغم فوائدها - بدأت تعمل خارج نطاقها الأمثل، خصوصًا في المراحل العمرية الأولى.
من هنا جاء التحول: إعادة الاعتبار للكتاب الورقي والكتابة اليدوية، وإرجاع التقنية إلى موقعها الطبيعي كأداة مكملة وليست محورًا رئيسيًا. هذا التحول يعكس ثلاثة مبادئ حاكمة:
أولًا: أن الإنسان هو مركز العملية التعليمية، وليس الجهاز.
ثانيًا: أن التكنولوجيا تُستخدم بعد بناء المهارات الأساسية وليس قبلها، ضمانًا لعدم تقويض البنية اللغوية والمعرفية للطفل. ثالثًا: أن السياسات التعليمية الفعّالة تُبنى على الأدلة لا على الضغوط التسويقية التي روّجت لرقمنة سريعة بلا تقييم حقيقي.
إن قراءة هذا التحول من منظور استراتيجي تشير إلى بداية مرحلة عالمية جديدة في تخطيط التعليم. فالمشهد الدولي يشهد اليوم مراجعة أوسع لمفهوم "المدرسة الرقمية"، وإدراكًا متزايدًا بأن الرقمنة غير المنضبطة قد تضعف مهارات التفكير العميق، وتعيد إنتاج الفجوات بدل سدّها.
ومن المتوقع أن تتجه الدول خلال السنوات القادمة نحو نماذج تعليم مزدوج تجمع بين البنية الورقية المتينة والبنية الرقمية المرنة، بما يحقق التكامل بدل الإزاحة.
بهذا المعنى، فإن التجربة السويدية ليست تراجعًا عن التقنية، بل نقلة في إدارة التقنية داخل المدرسة. نقلة تضع الأساس التربوي في الصدارة، وتعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والأداة، وتؤكد أن بناء المتعلم القادر على الفهم والتفكير لا يتحقق بالسرعة، بل بالعمق. وفي هذه الرؤية قد نجد المعالم الأولى لنموذج تعليمي عالمي جديد أكثر اتزانًا، وأكثر وفاءً لطبيعة التعلم نفسها.

