معالجة ملف مخصصات الأسرى والجرحى وأسر الشهداء في سياق الأزمة المالية الوجودية ... مقاربة وطنية شاملة
الكاتب: د. محمد جبريني/المساعد الأمني لوزير الداخلية
الملخص التنفيذي
تواجه السلطة الوطنية الفلسطينية أزمة مالية غير مسبوقة ترقى إلى مستوى التهديد الوجودي، بفعل نزف مالي مركّب وممنهج ناتج عن تفاعل ثلاثة مسارات رئيسة:
- سياسة إسرائيلية تصاعدية تقوم على حجز أموال المقاصة وتحويلها إلى أداة عقاب دائم عبر تشريعات الكنيست.
- وقف المساعدات الأمريكية منذ عام 2018 في أعقاب إقرار قانون "تايلور فورس".
- خسائر اقتصادية جسيمة جراء وقف العمال الفلسطينيين عن العمل داخل الخط الأخضر منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
في هذا السياق، لم يعد ملف مخصصات الأسرى والجرحى وأسر الشهداء ملفًا اجتماعيًا معزولًا أو قابلًا للمعالجة التقنية، بل أصبح في قلب منظومة ضغط مالي-سياسي دولية وإسرائيلية تُستخدم لإخضاع السلطة الوطنية الفلسطينية، وتقويض طابعها السيادي، وإفراغ بروتوكول باريس من مضمونه.
تنطلق هذه الورقة من مقاربة وطنية شاملة تؤكد أن معالجة هذا الملف ليست تراجعًا سياسيًا ولا مساسًا بالحقوق النضالية، بل خطوة سيادية لحماية المال العام، وإغلاق ذرائع الاقتطاع والابتزاز، واستعادة شبكة حماية اجتماعية عادلة ومستدامة تحمي الأسرى والجرحى وأسر الشهداء ضمن إطار ضمان اجتماعي وطني شفاف.
أولًا: الخلفية والسياق العام
على مدى السنوات السبع الماضية، تراكمت ضغوط مالية وسياسية على الموازنة الفلسطينية، وتحوّلت من أزمة سيولة إلى عجز بنيوي مزمن.
فمنذ عام 2018، شكّل قانون "تايلور فورس" نقطة تحوّل مفصلية، إذ ربط المساعدات الأمريكية بوقف مخصصات الأسرى والشهداء، ما أدى إلى فقدان دعم مالي قُدّر بين 1.5–3 مليارات دولار. ولم يقتصر أثر القانون على البعد الأمريكي، بل وفّر غطاءً سياسيًا وتشريعيًا لإسرائيل لتصعيد سياسة الاقتطاع من أموال المقاصة منذ عام 2019، ثم حجزها والتصرف بأجزاء منها لاحقًا.
وبعد 7 تشرين الأول 2023، بلغت الأزمة ذروتها مع وقف العمال الفلسطينيين عن العمل داخل الخط الأخضر، ما أدى إلى فقدان دخل شهري يُقدّر بنحو 1.4 مليار شيكل، وأصاب عشرات آلاف الأسر في مصدر رزقها الأساسي.
ثانيًا: حجم النزف المالي وتداعياته
تشير التقديرات إلى ما يلي:
- أموال مقاصة محتجزة تراكمياً: نحو 4 مليارات دولار.
- ضريبة المغادرة المحتجزة على معبر الكرامة: نحو 290 مليون دولار.
- مساعدات أمريكية مفقودة منذ 2018: 1.5–3 مليارات دولار.
- خسائر دخل العمال: 1.4 مليار شيكل شهريًا، بتراكم يقدر بنحو 7-9 مليارات دولار.
وقد أدت هذه العوامل إلى خسائر تراكمية مع آثار مضاعِفة شملت:
انكماش الاستهلاك، تآكل القطاع الخاص، تراجع الإيرادات الضريبية، ارتفاع البطالة والفقر، وضغط متزايد على الجهاز المصرفي.
الخلاصة: يتجاوز النزف المالي الكلي خلال السنوات السبع الماضية نحو 13–15 مليارات دولار، ما يؤكد أن الأزمة ليست خللًا إداريًا عابرًا أو تقصيراً حكومياً، بل تهديدًا مباشرًا لقدرة السلطة الوطنية على الاستمرار.
ثالثًا: إشكالية مقاربة مخصصات الأسرى والجرحى والشهداء
أدّت الصيغ السابقة لصرف المخصصات المالية للفئات المذكورة إلى نتائج عكسية خطيرة، من أبرزها :
- توفير ذرائع “قانونية” لإسرائيل لاقتطاع أموال المقاصة، وحجزها، واستخدامها لدفع تعويضات لمواطنين إسرائيليين بموجب أحكام محاكم إسرائيلية.
- وجود 380 قضية مرفوعة في المحاكم الإسرائيلية ضد السلطة الوطنية بمطالبات مالية تُقدّر بنحو 20 مليار شيكل.
- تكريس وقف المساعدات الأمريكية والدولية، وتحميل المجتمع الفلسطيني كلفة جماعية تفوق قيمة المخصصات نفسها.
إن التعامل مع هذا الملف من زاوية عاطفية رمزية أو فئوية ضيقة يُلحق ضررًا مباشرًا بالمصلحة الوطنية العليا، لأن الأسرى والجرحى وأسر الشهداء هم جزء أصيل من المجتمع، وأي سياسة تُفقِر المجتمع وتُضعف الدولة تُلحق الأذى بهم أولًا.
رابعًا: المسار الإسرائيلي-الأمريكي المنظّم
لم يعد الحجز الإسرائيلي لأموال المقاصة إجراءً ظرفيًا مرتبطًا بمخصصات الأسرى والجرحى وأسر الشهداء ، بل أصبح جزءًا من منظومة تشريعية متكاملة، أبرزها ما يُعرف بـ«قانون تجميد أموال السلطة المرتبطة بالإرهاب»، والتي تهدف إلى:
- إخضاع السلطة الوطنية ماليًا،
-توسيع الاقتطاعات لتشمل التعويضات، الخدمات الصحية، المخالفات، والدعاوى القضائية،
- تقويض أي إمكانية لتعافي مالي مستقل، بغضّ النظر عن الخطوات الإصلاحية الفلسطينية.
وعليه، فإن الأزمة لم تعد تقنية قابلة للحل الجزئي، بل سياسية-بُنيوية تستهدف إضعاف السلطة الوطنية ودفعها نحو التفكك.
خامسًا: التحول الجاري وأهميته
في شباط 2025، صدر مرسوم رئاسي بإلغاء الإطار القانوني السابق لمخصصات الأسرى والشهداء وأسر الجرحى، ونقل برامج الدعم إلى مؤسسة مدنية جديدة (مؤسسة تمكين).
يشكّل هذا التحول نافذة سياسية-قانونية لإعادة تنظيم الصرف المالي ضمن إطار ضمان اجتماعي وطني يستند إلى الحاجة الإنسانية، لا إلى توصيفات سياسية قابلة للاستخدام كأداة عقاب جماعي.
سادسًا: المقاربة الوطنية البديلة (السياسة المقترحة)
- إعادة التصنيف: تحويل المخصصات من صيغة سياسية إلى نظام ضمان اجتماعي وطني شامل قائم على معايير موضوعية.
- إنشاء صندوق وطني مستقل للتكافل والضمان الاجتماعي متعدد المصادر، بإدارة مستقلة، وتدقيق دوري، وإفصاح ربع سنوي.
- تعزيز الشفافية والرقابة عبر تدقيق دولي معترف به وتقارير منتظمة للرأي العام والمانحين.
- مسار دبلوماسي-قانوني مواكب لإغلاق الذرائع القانونية أمام الولايات المتحدة وإسرائيل، ولتقييد استخدام المقاصة كأداة ابتزاز.
- برامج تمكين وإنتاجية تشمل التأهيل، العلاج، التعليم، والاندماج الاقتصادي، لتقليل الاعتماد طويل الأمد والاستفادة من طاقات الأسرى المحررين والجرحى المعافين في بناء مؤسسات الدولة والنهوض بالمجتمع.
سابعًا: المخاطر والفرص
المخاطر:
سوء الفهم والتحريض الداخلي، واستغلال الملف لأغراض سياسية ضيقة، بما يهدد النسيج الوطني والاجتماعي.
الفرص:
- تخفيف النزف المالي.
-استعادة ثقة المانحين.
- حماية حقوق الأسرى والجرحى وأسر الشهداء ضمن إطار مستدام.
- تعزيز صمود المجتمع الفلسطيني ككل.
- التعامل مع التحديات الجديدة التي فرضتها الحرب الأخيرة على قطاع غزة وما نتج عنها من أعداد هائلة من الشهداء والجرحى والمفقودين.
الخلاصة النهائية :
إن معالجة ملف مخصصات الأسرى والجرحى وأسر الشهداء ليست مسألة تقنية ولا تنازلًا سياسيًا، بل قرار وطني سيادي لحماية المال العام، وصون الحقوق الأساسية، ومنع انهيار مالي يهدد وجود الشعب الفلسطيني في وطنه.
الرؤية الوطنية الرشيدة تُوازن بين الرمزية والكلفة، وتنتصر للمصلحة العليا، إذ لا كرامة لفئة إذا انهارت كرامة المجتمع، ولا حماية للأسرى والجرحى وأسر الشهداء دون حماية الشعب كله.
