الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 5:09 AM
الظهر 12:44 PM
العصر 4:15 PM
المغرب 7:02 PM
العشاء 8:19 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

دلّة عنقورة تعبق برائحة القدس

قهوة عنقورة.. رفيق العابرين وحكاية البدايات

مقهى دلّة عنقورة

رام الله- راية- شادي زماعرة- منذ عدة سنوات أسلك طريق وادي النار الموحش والشريان الوحيد بين مدن فلسطين الجنوبية والشمالية بألتوائته ومنحدراته الصعبة التي أجبرنا الاحتلال الاسرائيلي البغيض على المرور بها، فيه حكايات وحكايات لكل قاصد باب رزق أو لهفه مشتاق لعائلته بعد سفر طويل متعب، ومن أسراره التي أثارت فضولي بعض السيارات التي تقف باستمرار الى جانب بداية الطريق من الجهة الجنوبية (بداية وادي النار وآخر بلدة العبيدية)، طاولة صغيرة هزيله عليها "دلّة قهوة" نحاسية وغطاء من حرارة الصيف وبرد الشتاء وشاب وسيم بلحيته الخفيفة وعيونه المفعمة بالحياة يتنقل مسرعا كطائر باحث عن الحرية بين السيارات المتوقفة يمينا ويسارا يقدم لهم فنجان قهوة بطعم مميز حتى أصبحت زيارته وشرب قهوته طقوسا يومية للمسافرين.

على بداية منحدر عميق ونهاية واد سحيق بدأ حلم الشاب الخلوق أحمد يتحقق في مشروع العمر بعد عام2005، وقبلها بعامين كان يسعى ليكون طالباً في الجامعة بعد أن انهى دراسة الثانوية العامة، وذهب للعمل داخل الخط الأخضر ليحصّل مبلغاً من المال لتوفير مصروفات تعليمه في جامعة القدس، إلّا أن اشتداد أزيز رصاص الانتفاضة الثانية ودوي انفجارتها وحصارها، ضيّق الخناق وجعله ضحيّة موقف عصيب بين يدي جنود الاحتلال بعد يوم عمل شاق، حيث تعرّض للضرب وحياته للخطر.

قرر أحمد  أن يترك العمل داخل الخط الأخضر، رغم أن ذلك لم يسعفه في توفير مصروفات الدراسة، ولذا ترك الدراسة في كلية التربية الرياضية، وحاول مرّة أخرى في تخصص آخر بجامعة القدس المفتوحة، وذهب يفكّر في مشروعٍ خاص يسد حاجات العيش له ولأخوته الثلاث، فكانت فكرة دلّة القهوة على رأس طريق وادي النار.

أثناء مروري في يوم تشريني ماطر لزيارة الأهل في مدينة الخليل قررت التوقف قرب مشروعه الصغير وشاهدته وهو يعمل بحيوية ونشاط مفعمين، وبإبتسامه جميلة بسيطة غير مصطنعه يستقبل زبائنه، وما لفت انتباهي حبهم الشديد له وتبادلهم لاطراف الحديث السريع معهم مما يدل على علاقة طيبة خلقتها دلته وقهوته حتى نزلت من سيارتي فاتجه لي مسرعا "واجبك علينا يا استاذ أأمرني وطلبك لسيارتك".

يقول أحمد أن فكرة البدء بمشروع الدلّة توفير حياة كريمة، وصمود على الأرض بعد ضنك الحياة في ظل احتلال يضيق الخناق ودولة فلسطينية محاصرة وفرص عمل ضئيلة، وكأن لوجود الدلّة على مشارف القدس في ذاك المكان رمزيّة على صموده وتحديه ظروف البطالة، فتراها تستمد شعاع بريقها الذهبي من قبّة الصخرة المقابلة لها.

منذ ذلك الوقت، يتناوب أحمد وأخوته الثلاث "محمد، محمود، أكرم" في العمل من الساعة 5 فجراً حتى 12 منتصف الليل في أيام الصيف، وفي أيامنا هذه فصل الشتاء يقتصر العمل من الساعة 7 صباحاً حتى 10 ليلاً.

"الشغل مش عيب!"

في بداية المشروع، لم تكن فكرة بيع القهوة رائجة في مجتمعنا، خصوصاً على جنبات الطريق، إلّا أن أحمد تغلّب على وقوفه مجبوراً، وفي نفس الوقت "الشغل مش عيب"، يقول: "بدأنا رويداً رويداً، برأسمال قليل وزبائن يزيد عددهم يوماً بعد يوم، لمدّة شهرين نجلب القهوة معنا من البيت الذي يبعد مسافة 400 متر، حتى استطعنا لاحقا استئجار مخزن نعد القهوة بداخله.

في البداية لم يكن الأمر سهلاً، "فالأوضاع الأمنية كانت تحتم علينا العودة للبيت في وقت مبكر، فلم يكن الشعور بالأمان كما اليوم ولا وجود لإنارة في الشوارع،  أما في الوقت الحالي عودة الأجهزة الأمنية وتوفير خدمات في البنية التحتية يساعدنا على أداء العمل بسهولة".

العلاقة بين أحمد والأجهزة الأمنية علاقة جيران، فمقرات الشرطة والأمن الوطني والضابطة الجمركية بمحاذاة الدلّة،  "بشوفهم أكثر من أهلي، بيننا علاقات محبة وود، ولا في مرّة بتذكر أني تعرضت لمضايفة، أبناء وطني وإحنا محسوبين على بعض؛ إلّا في حالات الطوارئ لحالي أقوم بإخلاء الدوار لأنه نقطة مهمّة وإستراتيجية".

دوزان القهوة والجو يعتمد ع البساطة

يبدأ يوم أحمد في صب القهوة على صوت القرآن الكريم صباحا وأغاني فيروز  التي تزيد من مذاق القهوة طعما ونكهة، "يكون ذلك بصوت هادئ جداً فقط يسمعه الزبائن عند الوقوف لطلب القهوة، نستقبلهم ببشاشة وبساطة المكان تقربهم منا وتشعرهم بطعم الهيل الشامي المحروق بفحم الحمضيات من الاغوار والشمال"، وبكلماته هذه وكأنه يصف التحديات والحواجز  التي تجاوزها بفنجان قهوته لتوحد مكوناتها الوطن في مكان واحد.

وتابع بنظراته واثقة الى السيارات المارة والزبائن "أشكر جميع الناس، من الممكن أن تكون قهوتنا ليست شيء عظيم، لكن الأهم التعامل الجيد مع الناس فهم رأس مالنا الكبير وأننا لا نخجل من عملنا، حصلنا على التراخيص اللازمة من وزارة الصحة والبلدية والدفاع المدني ونهتم بالنظافة ورضا الزبائن سر نجاحنا اليوم".

لا يدّعي أحمد أن القهوة التي يعدونها لها سر خطير فهو وأخوته يجلبون البن من المحلات التجارية " نقوم بطحنه بأنفسنا، وبطريقة عادية لكن بزيادة البهارات والهيل، وهذا يلعب دور في الطعم، أهم ما نركّز عليه هي الجودة العالية". 

وبما يخص العلاقة مع الزبائن، يحفظ أحمد أسماء العديد منهم، وكذلك مواعيد عملهم، ومن أين جائوا ويقول أن معظمهم موظفين وعمّال، "يعني علاقتي في الزبائن، لا تقف على مناولة كاسة القهوة وأخذ ثمنها شيقل واحد، في كل مرة نتبادل أطراف الحديث، أبتسم في وجوههم ويبتسمون في وجهي وهناك مجاملات بيننا وعلاقات طيبة وهم من مختلف المدن وبحمد الله لدينا زبائن من كل مكان لا يشعرون بسفرهم الا عند توقفهم وشربهم قهوتنا ومنهم مسؤولين كبار".

مواقف طريفة

يؤدي الأخوة الأربعة دورهم في العمل على دلّة القهوة على طريقة الشيفتات، ويكون دور أحمد من الساعة 9 صباحاً حتى 3 عصراً، ويقول أنه يحدث بشكل يومي مواقف طريفة مع الزبائن، "احياناً بمر عليك شباب متجليين بقولك اعطيني 3 قهوة واحد بدون سكر ووحدة مرة ووحدة سادة، احياناً بتخربط من مواقف زي هيك.. وبتكون مضحكة". 

"بحكي دائماً، احتمال كاسة القهوة ثمنها شيقل واحد، والحقيقة لم يبقى الأمر بالنسبة لي كمشروع مادي أكثر من تأديه الخدمة لزبائني والأشخاص التي أصحبت على علاقة رائعة معهم".

ربما بعض الزبائن لا يحتسون القهوة في بيوتهم، وهذا يعتبره أحمد عبء عليه في أن لا يجعل الدلّة تتغيب يوماً واحداً عن الطريق، صيفاً وشتاءً، في أيام البرد والحر.

وبينما يسترسل أحمد في حديثه لنا في يوم شتائي، وقفت سيارة فارهة إلى جانب الطريق يطلب سائقها قهوته من الدلّة بعد منادة "أبوحميد ملك القهوة"، ولدى سؤالنا للسائق، قال إنه من مدن شمال الضفة الغربية، يزور مدن الجنوب باستمرار بحكم عمله، ويفضّل شرب القهوة من عنقورة دائماً، فهو يعتبرها مميزة ولها مذاق مختلف، خاصة وأنه اعتاد عليها منذ سنوات "أحب هؤلاء الشباب وانتمائهم لعملهم وبشاشتهم، هم نموذج للفلسطيني الذي يريد أن يعيش ويبني مستقبله، قهوتهم مميزة بتميزهم ويضيف ... "اسبوعيا اسلك هذا الطريق ولا بد من شرب القهوة في الذهاب والاياب والاطمئنان عليهم والمزاح معهم" ... 

ومما لا شك أن هذه المشاريع الشبابية التي تصنع أصحابها كما أرادوها في الأساس ابداعية وخلّاقة، تخرج من رحم المعاناة والظروف الانسانية التي يعيشها أبناء فلسطين، لذا بعد دعمها واجب وطني وانتماء حقيقي لما فيها من قيم وريادة وحب الحياة.

Loading...