الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 4:38 AM
الظهر 12:43 PM
العصر 4:22 PM
المغرب 7:26 PM
العشاء 8:47 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

الريف في مهب خيبات اتفاقيات أوسلو والفلاحة سبيل للحماية

سعد داغر

 

 

كنت صغيراً وأنا أتسلل إلى سطح منزلنا وأبدأ بجمع حبات السمسم وألتهمها؛ فقد كنت مولعاً بأكل السمسم البلدي. ثم حين تصعد أمي في وقت لاحق إلى السطح، تجد القليل القليل من السمسم لجمعه وتخزينه في البيت، وتقول: غريب، أين ذهب السمسم، لماذا الكمية قليلة؟ أم أن النمل يسحبه؟ كنت ألتزم الصمت، لأن انكشاف أمري يعني "فَلَقَة" على "المؤخرة" بالعصى أو بحذائها البلاستيكي. كان والدي يأتي بنباتات السمسم المحصودة من الحقل، وكانت أمي تبني هرماً منها على قطعة قماش "المالطي"، في انتظار أجراس السمسم كي تتفتح، وتبدأ البذور تتساقط يوماً بعد يوم. وفي وقت لاحق من الصيف كانت تجفف البندورة؛ فأتسلل لأكل القليل منها، لأن أكل الكثير سيكشف الأمر. كان السطح يزخر بالمحاصيل - لوز، قطين، زبيب، ملبن، سمسم، بندورة، فريكة، وبامية للتجفيف.

أما البيدر فقد كان يمتليء بالقمح والشعير والفول والحمص والعدس. ومنذ صغرنا كنا نعرف كيف نُحَمِّل حمالة "الزرع" أي القمح والشعير. تحميل الزرع على حمالة البغل أو الحمار هو فن، لم يعد يعرفه الكثيرون، ولم يعد الكثيرون يعرفون ما هو "الشْمال" وما هي "التظريبة" وما هي "الكَتَة" وما هي حمالة القمح. اختفى كل ذلك من حياة الريف، وانتزعت "الريفية" من الريف؛ فأصبحت القرية تستهلك ما يأتيها من الخارج ولا تنتج ما تحتاج. فما هو السبيل لعودة الريف لريفيته؟ وهل نحن بحاجة لهذه العودة للحفاظ على الأرض؟ لعل الإجابة على السؤال الثاني، تكون المفتاح للإجابة على السؤال الأول.

يكثر الحديث عن أهمية الانتاج الذاتي للغذاء، لتجنب "الأوساخ" الكيميائية التي تتسلل عبر الغذاء إلى أجسادنا، ولا سبيل لتجنبها إلا بالإنتاج الذاتي لغذاء طبيعي بلا سموم كيميائية تفتك بأجساد الصغار والكبار؛ أو من خلال التعامل المباشر مع الفلاحين والفلاحات ممن ينتجون الغذاء الخالي من تلك الأوساخ.

لكن، في سياقنا الفلسطيني ليس هذا فقط هو الهدف، بل إن العمل في الأرض هو السبيل الأول للحفاظ عليها أمام شراسة مُحتل لا يشبع من نهبها ومصادرتها والسيطرة عليها (وإن كنا متأخرين)، من خلال استخدامه قوانين وأوامر عسكرية إلى جانب البلطجة، واستغلال خيبات اتفاقات أوسلو ومآسيها لانتزاع الأرض، لصالح المشروع الاستيطاني الاستئصالي العنصري. ففلاحة الأرض واستمرار البقاء فيها، ينزع على الأقل بعض ذرائع الاحتلال للسيطرة على الأرض. بينما إهمال الأرض وعدم العناية بها يدفع المستوطنين وبغير وجه حق، إلى اعتبار الأرض المهملة ملك لدولة الاحتلال، استنادا إلى قوانين إسلامية وعثمانية قديمة عفا عليها الزمن (وكأن كيان الاحتلال أصبح "مسلما" يعيش في كنف الدولة العثمانية ويلتزم تطبيق قوانينها).

كما أن العودة للأرض تتضمن أبعادا صحية-نفسية وأخرى تربوية ومنافع كثيرة؛ حيث أن العمل في الأرض والتفاعل مع الطبيعة يحفظ صحة الإنسان الجسدية والنفسية، في ظل تفشي أمراض سببها قلة الحركة وسوء التغذية، إلى جانب التوتر والقلق اللذين يمكن تخفيفهما إلى حد كبير، من خلال التفاعل مع الأرض والعمل فيها والاندماج في الطبيعة. فملامسة التربة تحفز انتاج هرمون السعادة (السيروتونين) عند الإنسان كما تظهر بعض الأبحاث الحديثة. أما تربوياً، فإننا نشهد خللاً في

سلوك الكثير من أفراد المجتمع الشاب والأطفال، سواءً على صعيد العلاقات بين الناس، أو العلاقة مع المكان - أرض أو قرية أو مدينة أو حتى شارع أو شجرة في الشارع.

العلاقة الصحية بالأرض هي المدخل لاستعادة العلاقات الصحية بين أفراد المجتمع، بعدما انجرف الناس نحو الفردانية، وابتعدوا عن قيم العمل الجماعي والتعاون. الريف الذي ابتدع فلسفة "العونة" المصبوغة بأصالة أهل الريف، ما عاد يعيش تلك القيم والتقاليد، بل هو أيضاً يتجه نحو الفردانية، في وقت تشتد عليه المؤامرات والمِحَن، ويحتاج بالتالي لمواجهتها فكراً جمعياً وعملاً مشتركا. فالريف الفلسطيني الذي يقع وفق اتفاقيات أوسلو في مناطق "ج"، أصبح مستباحاً للاحتلال وعصاباته وللتوسع الاستيطاني. والمقصود هنا بالريف ليس القرى المبنية فحسب، بل الأراضي الممتدة حولها.

الخطوات المطلوبة للحماية كثيرة، وبعضها ما زال في الإمكان فعله، وأولها نزع حجة الاحتلال بأن الأرض متروكة بلا عناية من أصحابها، رغم عدم قانونية هذا الادعاء، لكننا نواجه مُحتلا مختلفاً عن كل المُحتلين.

قانون عمل ذاتي

العودة للأرض باتت مسألة وجود، والعناية بها لا تحتاج الكثير من الجهد، ويمكن صياغة قانون عمل ذاتي جوهره 168/2، ما يعني أن ساعتين في الأسبوع الذي تبلغ ساعاته 168 ساعة، كافيتان للتأكيد بأن للأرض أصحاباً يعتنون بها، وأن الأرض ليست متروكة أو مهملة. ولو زادت ساعات العمل في الأرض قليلاً، لتصل خمس ساعات أسبوعيا، فعندئذ سيكون بالإمكان تحويل الأرض إلى مصدر لإنتاج بعض الأغذية الأساسية والاستراتيجية؛ حيث أظهرت حرب التجويع على شعبنا في غزة مدى أهمية الانتاج الذاتي لتلك الأغذية. خمس ساعات تحديدا يقضيها ثلث الفلسطينيون يومياً (وليس أسبوعياً) على وسائل التواصل الاجتماعي، حسب تقرير صدر قبل عامين عن "الاقتصادي"، بينما يقضي الثلث الآخر من الفلسطينيين ثلاث ساعات يومياً على وسائل التواصل الاجتماعي حسب نفس التقرير. فحُجة أن لا وقت لدى الفلاح أو أبناء الريف للعمل في الأرض وإعطاءها خمس ساعات أسبوعيا لحمايتها وإنتاج الغذاء منها، حجة واهية كما بيت العنكبوت.

إننا في الضفة الغربية المحتلة، مُقبلون على وضع صعب، بل أصعب من حالنا الراهن، وقد يوازي في صعوبته وخطورته ما يمر به شعبنا في قطاع غزة، وليس أمامنا بالتالي سوى الاستعداد ليومٍ لا محالةَ آتٍ.

هناك أمران للبدء بهما: العمل في الأرض والعناية بها الآن مع الاستعداد لموسم الأمطار القريب الآتي، لزراعة الأرض بالمحاصيل الاستراتيجية، التي من ضمنها القمح أولاً، وبقية الحبوب بما فيها البقوليات التي يمكن تخزينها، بما في ذلك محاصيل الأعلاف، وكذلك المحاصيل الجذرية التي يجب توجيه الاهتمام إليها لأنها تشكل محاصيلاً يمكن تخزينها لفترات طويلة (بما في ذلك تخزين بعضها في التربة وأخذ ما يلزم منها عند الحاجة)، مثل البطاطا والبصل والثوم والجزر والشمندر واللفت والبطاطا الحلوة، مع العمل على إدخال محاصيل جديدة من هذا النوع، مثل الأوكا، اليام، والياكون، ونبات جذور الشمس (خرشوف القدس)، وغيرها من المحاصيل الجذرية، وغالبيتها تعتمد على مياه الأمطار وتشكل غذاءً متكاملاً للإنسان. بالإضافة للمحاصيل المحلية التي يمكن تجفيفها أو تخزينها بطرق مختلفة، كالبندورة البلدية، والبامية، والسمسم، والذرة المتنوعة.

العمل الجماعي

الأمر الآخر الذي يحمل أهمية استثنائية في ظروفنا يتمثل في استعادة روح الجماعة التي شوهتها وسحقتها العولمة وخيبات اتفاقيات أوسلو. العمل الجماعي ليس فقط لتحصين المجتمع والعودة إلى الجذور التي تُبنى على أساس أننا جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له باقي الأعضاء بالسهر والحمى، بل لمواجهة مشروعا تجويعيا قد يأتينا، ولصون الأرض مركز

الصراع. العمل الجماعي الذي تمثل سابقاً بالعونة بحاجة لإعادة إحياء في ريفنا النازف؛ فلو بقيت هذه الروح لما أصبحت الأرض الزراعية خراباً.

قيمة العونة أكبر من لقاء الفلاحين في الأرض وبناء "سنسلة"، فهي امتداد للجذور الفلاحية نحو عمق التجذر في الأرض، وهي مدرسة يتعلم فيها الكل ويتناقلون المعرفة ويتبادلونها بين بعضهم، وهي مدرسة في "الجغرافيا" الفلاحية والتاريخ، لقراءة الأرض وما عليها وما في باطنها، وهي امتداد لبناء "خوابي" البذور، رمز الاكتفاء الذاتي، وهي حفظٌ للتراث الفلاحي بكل مصطلحاته ولغته بعمق المعاني ورحابة فضاء المعرفة.

"التجامل" لم يعد متداول كمصطلح ريفي-فلاحي ولم يعد الكثيرون يفهمون معناه العميق؛ ولمن لا يعرف، فهو يعني أن يتفق فلاحان - علي وسليم- أو أكثر، على العمل في أرض كل منهما معاً، فتجدهما اليوم يعملان في أرض علي، يبنون "سنسلة" أو يزرعون القمح، أو يحضرون لزراعة المحاصيل الصيفية البعلية، أو يحصدون، وغداً يذهبان للعمل في أرض سليم. لا ينظر أي منهما كم ساعة عمل هنا أو هناك، أو كم يوماً، يتعاونان في العمل ويتبادلان المعرفة، ويتقاسمان لقمة خبز مغمسةٍ بالزيت وحبات من "الرصيع" وقرص جبنة؛ إنه عطاء بلا حدود وبلا شروط. هذا معنى أن "يتجاملان" وهكذا تم إعمار الأرض في تاريخنا الفلسطيني.

وحقٌ لفلسطين علينا اليوم أن "نتجامل" كي نحميها ونحفظ وجودنا عليها. قد نكون تأخرنا وأخذتنا الحياة لأماكن أخرى واهتمامات مختلفة، ولكن ما زال في الزمن متسعاً. فيض السماء قادم، والمياه آتيةٌ بوفرة، والتحضير يبدأ اليوم، لاحتضان المياه في التربة والبرك والآبار وخزانات المياه، لننتج ما يكفينا ويمنحنا القدرة على البقاء، أمام الريح العاصفة.

مرةً أخرى، المؤسسات التنموية الزراعية والوزارات ذات العلاقة وبعض المؤسسات الدولية العاملة في القطاع الفلاحي، عليها مسؤولية كبرى، في العمل الحقيقي، وتركيز هذا العمل في مشاريع تبني القدرة على البقاء وحفظ الأرض، وليس مشاريع "استعراضية"، مشاريع في جوهرها مساعدة أهل الريف على احتضان مياه الأمطار في التربة وآبار الجمع والبرك والخزانات المائية، مشاريع تركز على التسييج الجماعي للأراضي لحمايتها من الحيوانات البرية. هذه المشاريع تبني القدرة على البقاء وتحفظ الأرض وتعيد للريف ريفيته. فقد تم ضخ مئات آلاف الدولارات على مشاريع زراعية "استعراضية"، فشل معظمها بعد العام الأول، أو بيعت معداته، أو بقيت في مخازنها يلفها الصدأ. مشاريع وقع حتى طالبوها تحت تضليل الدعاية ووسائل التواصل الاجتماعي والانترنت، ثم بكى أصحابها على ما أصابهم من فشل وما أنفقوا من مال ووقت وجهد عليها. الأراضي الجاهزة للزراعة مساحتها مئات آلاف الدونمات، وكل ما تحتاجه، توفير المياه (الآتية قريباً من السماء)، وتعليم الفلاحين ما فقدوه من معرفة، وتسييج الأراضي وروح "التجامل".

الأوسمة
Loading...