حيث يولد الأمل من رحم الحرب: قرية الوفاء تحتفل بتخريج ألف طفل يتيم

غزة - مرح السطري
في قلب قطاع غزة، حيث تختلط رائحة البحر بصوت القصف وتتشابك الأحلام الصغيرة مع واقعٍ قاسٍ لا يرحم، برزت قصة إنسانية استثنائية تجسدت في شخصية الدكتورة وفاء أبو جلالة، مديرة قرية الوفاء لرعاية الأيتام، التي تحولت من طبيبة ومعالجة إلى أمٍ لأكثر من ألف طفل، ومن مديرة إلى قائدة تحمل على عاتقها رسالة الوفاء في زمن عزّ فيه الوفاء وتراجعت فيه الإنسانية أمام مشاهد الحرب والدمار
قرية الوفاء ليست مجرد جمعية لرعاية الأيتام بل هي بيت دافئ ومدرسة ومسرح ومركز ثقافي ومكان تنبت فيه الأحلام رغم الحصار، حيث يجد الأطفال الذين فقدوا ذويهم حضنًا بديلًا وبيئة آمنة تعيد إليهم شعور الانتماء والكرامة، وقد احتفلت القرية يوم أمس الإثنين بتخرج الفوج الأول من أطفالها، ألف طالب وطالبة، في لحظة اختلطت فيها دموع الفرح بزغاريد الأمهات البديلات وارتفعت فيها أصوات الموسيقى لتعلن أن غزة، رغم كل شيء، لا تزال تنجب الأمل وتحتضن الحياة
الحفل الذي أقيم في ساحة القرية شهد حضورًا واسعًا من الصحفيين والنشطاء المجتمعيين إلى جانب شخصيات بارزة من أصحاب القامات العالية وأهالي الأطفال، وكان بمثابة شهادة حية على تأثير القرية في المجتمع وعلى الاحترام الكبير الذي تحظى به الدكتورة وفاء ومشروعها الإنساني، ولم يكن الحفل مجرد مناسبة لتوزيع شهادات بل كان عرضًا حيًا لإنجازات القرية حيث شارك الأطفال في عروض مسرحية ودبكات شعبية وغنوا أغاني تراثية وقدموا مشغولات يدوية من صنع أيديهم الصغيرة التي رغم الألم لا تزال تعرف كيف تُبدع وتُقاوم
في كلمتها المؤثرة أمام الحضور، قالت الدكتورة وفاء إن الوفاء مستمر رغم الضغوط والتعب لأن الرسالة لا يمكن أن تتوقف، مؤكدة أن عملها ليس وظيفة بل التزام إنساني يتطلب التضحية والصبر والإبداع في مواجهة التحديات، وأضافت أن القرية لا توفر فقط سقفًا للأطفال بل تعيد إليهم هويتهم التي حاولت الحرب محوها، مشيرة إلى أن كل طفل في القرية له قصة وله حلم وله مساحة يعبر فيها عن نفسه سواء عبر المسرح أو الرسم أو الموسيقى أو الأنشطة الثقافية والاجتماعية
من أبرز إنجازات قرية الوفاء أنها أصبحت أول جمعية من نوعها في قطاع غزة تعتمد رسميًا من قبل وزارة التربية والتعليم وتمنح شهادات علمية معترف بها لطلابها، وهو إنجاز غير مسبوق يعكس جودة التعليم والرعاية المقدمة للأطفال، وقد تحقق هذا الاعتماد بعد انقطاع عامين عن الدراسة بفضل الجهود الحثيثة التي بذلتها الدكتورة وفاء وفريقها الذين آمنوا بأن التعليم هو السبيل الوحيد لكسر دائرة الحزن والحرمان وفتح أبواب المستقبل أمام الأطفال
الحفل شهد لحظات مؤثرة جسدت انتصار الإرادة على الظروف القاسية، حيث وقف الأطفال بزي التخرج يلوّحون بشهاداتهم بفخر بينما تصدح الموسيقى وتعلو الزغاريد من الأمهات والمربيات، وعبّر بعض الأطفال عن امتنانهم للدكتورة وفاء التي وصفوها بـ"أم الأيتام"، فيما قال الأستاذ الدكتور منير رضوان نائب مدير القرية إن هؤلاء الأطفال هم أيتام الحرب لكنهم أبطال المستقبل، في إشارة إلى التحول العميق الذي أحدثته القرية في حياتهم
السيدة مها عمر، وهي أم لأطفال يدرسون في القرية، قالت إن تجربتها كانت مميزة جدًا وتعرفت خلالها على طاقم القرية الذي جسّد معنى الوفاء والإنسانية، وأضافت أن مشاعرها كأم كانت مليئة بالفخر بأولادها لانتمائهم إلى قرية الكرام، مشيرة إلى أن القرية أصبحت امتدادًا لبيتها من خلال التواصل الراقي والاحترام المتبادل بين الأمهات والطاقم الإداري، وأكدت أن التعليم في المراحل الابتدائية كان له أثر كبير في سلوكيات الأطفال داخل القرية والبيت، وأن الحب والحنان داخل القرية هو العامل الأكبر في نجاحها
فقد تحدثت السيدة مها عمر عن موقف ترك أثرًا عميقًا في قلبها، إذ لم تكن تملك القدرة على شراء ملابس العيد لأطفالها، لكنها فوجئت برسالة من القرية تفيد باستلام كسوة العيد، وقالت إن تلك اللحظة كانت فرحة لا تُنسى للأطفال ولها كأم، ووصفت القرية بأنها عالم آخر وكأنها قطعة من الجنة، مؤكدة أن قرية الوفاء قاهرة للمستحيل
منذ بدء الحرب الأخيرة على غزة، واجهت القرية تحديات جسيمة تمثلت في نقص التمويل وصعوبة الوصول إلى الموارد والتهديدات الأمنية وانقطاع الكهرباء والماء، ومع ذلك لم تتوقف عجلة العمل، فقد استمرت الدكتورة وفاء في إدارة القرية بروح لا تعرف الاستسلام، وواصل الفريق تقديم الرعاية للأطفال بكل ما أوتي من قوة، وكانت هناك أيام لم يكن فيها طعام كافٍ أو كتب مدرسية أو حتى ماء صالح للشرب، لكن الأطفال لم يشعروا بالنقص لأنهم كانوا محاطين بحب لا يُقاس ورعاية لا تُشترى وأمان لا يُقاس بالمال الصحفيون وثّقوا اللحظة والنشطاء شاركوا صورًا ومقاطع فيديو على منصات التواصل الاجتماعي لتصل رسالة القرية إلى العالم، أن غزة رغم الحصار والدمار لا تزال تنبض بالحياة والعطاء، وقال أحد النشطاء إن قرية الوفاء تمثل نموذجًا لما يجب أن تكون عليه مؤسسات رعاية الأيتام، فيما علّقت إحدى الشخصيات الأكاديمية بأن الدكتورة وفاء تستحق كل التقدير لأنها بنت مؤسسة تعليمية واجتماعية من قلب الألم وجعلت منها منارة للطفولة في غزة
قرية الوفاء ليست مجرد مشروع محلي بل رسالة عالمية تقول إن الأطفال يستحقون الحياة والتعليم والحب والأمان مهما كانت الظروف، والدكتورة وفاء من خلال عملها تدعو العالم إلى النظر إلى غزة بعين الإنسانية لا السياسة، وتؤمن أن الاستثمار في الطفولة هو الطريق نحو السلام الحقيقي وأن بناء الإنسان هو الخطوة الأولى نحو بناء الوطن
في نهاية الحفل، وقفت الدكتورة وفاء وسط الأطفال واحتضنتهم واحدًا تلو الآخر وقالت لهم أنتم لستم أيتامًا أنتم أبنائي أنتم مستقبل غزة، وكانت تلك اللحظة تجسيدًا حيًا للرسالة التي تحملها وللحب الذي لا يعرف حدودًا وللإنسانية التي لا تنكسر