أحمد… طفلٌ خرج من بين الرماد يحمل نصف جسدٍ وقلبًا كاملًا
جنين ابو جراد
على أطراف الميناء الغزّي، حيث تختلط رائحة البحر برائحة الركام، يجلس أحمد فالح ورش أغا — طفلٌ لم يتجاوز الرابعة عشرة — يحاول أن يخفي يده المبتورة داخل قميصه الواسع، ويُخفي معها ما استطاع من وجع.
لا شيء في ملامحه يوحي بأنه عاش ما يكفي لسرد كتابٍ من الألم… ومع ذلك، فكل كلمة ينطق بها تحمل وزن مدينة مهدّمة بأكملها.
“كنت مكيف بحياتي”، يقولها أحمد وكأنه يتحدث عن زمن بعيد.
كانت حياة أحمد قبل الحرب بسيطة كحياة أي طفل: مدرسة يذهب إليها كل يوم، مباراة كرة قدم في الحارة، ولعبة “ببجي” على الهاتف.
وكان أكثر ما يفرحه تلك اللحظات التي يخرج فيها مع أخيه الأقرب إليه من روحه، عمر، إلى سطح البيت؛ يحملان طائرة ورقية صنعاها سويًا من عيدان خشبية قديمة وكيس نايلون ملون.
كان عمر يمسك بالخيط، ويترك لأحمد فرصة أن يركض خلفه وهو يصرخ: “شدّ يا أحمد… ارفع إيدك… بدها تطير!”
وكانت الطائرة، كلما ارتفعت في السماء، تجعل المسافة بينهما أقرب… وكأن خيطها لم يكن يشد الورق فقط، بل يشد قلبين وطفولتين لا تريدان أن تكبرا.
من بيت لاهيا إلى المجهول
جاء الإخلاء من بيت لاهيا، حملت العائلة ما استطاعت من أشياء، وغادرت البيت على أمل العودة بعد أيام. لكن الطرق امتلأت بالقصف، والمدارس بالمُهجرين، والسماء بالأسئلة التي لا أجوبة لها.
نزحوا أولًا إلى غزة، ثم إلى مدرسة تُستخدم كمأوى . وفي إحدى الليالي، سقط القصف الإسرائيلي على المدرسة.
تناثرت الأجساد… اختلطت الأصوات… واضطربت ذاكرة أحمد في تلك اللحظة لدرجة أنه لا يتذكر سوى شيئا واحدا: الألم.
نقلوه إلى المستشفى.
وضعوه على “شَقّة” مع الإصابات الحرجة، بعد أن يئسوا من بقائه حيًا.
لم يقترب منه أحد… إلّا طبيب واحد.
اقترب الطبيب وسأله:
“شو اسمك يا بطل؟”
ردّ بصوت متقطع:
“أحمد… أحمد فالح ورش أغا.”
كانت تلك الجملة القصيرة بمثابة إعلان حياة، حين أمر الطبيب فورًا بنقله للعمليات، وبقي أحمد بين الموت والحياة ثماني ساعات كاملة.
“صحيت… وما لقيتش إيدي”!
حين استيقظ أحمد بعد العملية، بدأ يدرك ما حدث.
تحسس جسده الذي لم يعد كاملا يده اليمنى لم تعد موجودة.
وعلى بطنه، كيس جانبي الكولستومي — إجراء طبي طارئ لإنقاذ حياته.
يقول بصوت يتحرك بين الطفولة والرجولة القسرية:
“شفت حالي بدون إيد… حسّيت الدنيا وقفت. أول إشي فكّرت فيه: كيف بدي أمسك التليفون؟ كيف بدي ألعب؟ كيف بدي أرجع طفل؟”
لم يكن هناك وقت للاعتراض أو الانهيار.
الحرب لم تترك له رفاهية الانكسار.
نزوح فوق نزوح
بقي أحمد أكثر من شهرين داخل المستشفى، يتنقّل مع كل عملية إجلاء من مشفى لآخر.
عاد إلى غزة، ثم إلى الهلال الأحمر، ثم إلى الميناء… وكان الألم يرافقه كظلٍّ ثقيل لا ينفصل عنه.
وفي الميناء، جاءت اللحظة التي غيّرت مجرى حياته للمرة الثانية.
كان واقفًا مع أخيه عمر في الشارع، يتحدثان عن شيء بسيط كالعادة — ربما لعبة، ربما ذكرى، ربما موقف او حلم صغير — ولم يكن يعلم أنها ستكون آخر لحظة بينهما وآخر حديث.
سقط القصف فجأة.
استشهد عمر على الفور.
وأصيب أحمد مرة أخرى، هذه المرة في يده اليسرى — اليد الوحيدة التي بقيت له.
فقد الأب… ثم أخيه الأكبر حيث فقد الأمان كلّه
كان أحمد قد فقد والده قبل ذلك بوقت قصير.
استشهد الأب في بيت لاهيا في بداية الحرب، تاركًا خلفه خمسة أطفال وزوجة… ثم لحقه الابن الأكبر بعد شهور.
تقول والدته، سوسن ورش أغا، وهي تُمسك بطرف ثوبها كي تخفي ارتجاف يديها:
“زوجي كان سندي… وبعد ما استشهد، صار عمر سندي… وبعدين راحت الحياة مرتين.”
تحكي عن اللحظات التي كانت تبحث فيها عن أحمد بين الجثث:
“حكولي: يمكن تلاقيه في تلاجة الموتى.”
تقول الجملة وكأنها لا تزال تسمعها لأول مرة.
وآخيرا أخيرا… وجدته في غرفة العمليات.
العيش بنصف جسد… وبقلب كامل
اليوم، يعيش أحمد مع والدته وإخوته الثلاثة وأخته الوحيدة.
يستيقظ كل صباح، يفرغ كيس الكولستومي
، ثم يذهب ليجلب الماء للعائلة — رغم الألم — لأنه يشعر بمسؤولية أكبر من عمره بكثير.( كيف بجيب الماء وليس لديه يدين؟ هو لم يفقد كلتا يديه فقط واحدة ويجلب الماء بها قرب صغيرة
البحر قريب جدًا منه… لكنه لا يجرؤ على السباحة.
الأطفال يلعبون أمامه… وهو يجلس بعيدًا، ينظر إليهم بصمت لا يشبه صمت الأطفال.
يقول:
“نفسي ألعب زيهم… نفسي أرجع أسبح… نفسي أتخلص من الكيس… وأركب طرف صناعي ، وأعيش زي أطفال العالم اعتقد هاي جمله ممكن كتابتها بشكل مش شعاراتي ممكن: وأعيش طفل ...زي أي طفل في العالم.”
أمٌّ تُحارب الألم بيدٍ واحدة
أما والدته سوسن شاحبة الوجه منهكة الجسد متشققة اليدين والقدمين ، فتعيش معركة يومية لتوفير جزء بسيط من أساسيات الحياة، لكن المعركة الأكبر وهي تتنقل من مشفى لأخر للحصول على الأكياس الطبية الخاصة بابنها ، فتعود كثيراً فارغة اليدين تبكي بحسرة وقهر .
تقول:
“بيعطونا 7 أكياس في الشهر… شو بدهم يعملوا لـ30 يوم؟ إذا الكيس انمزَع… بتتبهدل الدنيا.”
حاول بكل الطرق أن تجعل حياته طبيعية قدر الإمكان، وتقول:
“بعطيه قلن صغير يعبي مي… عشان ما يحس بالنقص… بحاول أرجّعله ثقته بنفسه.”
لكن الألم أكبر من محاولاتها، والبرد يزيد من وجعه، ونقص المستلزمات يجعل كل يوم معركة جديدة.
أحمد… الحلم الذي لم يمت
رغم كل شيء، ورغم فقد اليد والأب والأخ والبيت والطفولة… لا يزال لدى أحمد حلم.
يقول بصوت فيه بقايا حياة:
“كان نفسي أصير دكتور… وهلّقيت نفسي أكتر… يمكن أعالج ناس زي ما الدكتور أنقذ حياتي.”
ثم يضيف ما يشبه الرجاء:
“بدي أعيش بأمان… بدي أركب طرف… بدي أكمل دراستي… بدي أكون زي كل أطفال العالم.”
هذه ليست قصة أحمد وحده.
بينما يعيش أحمد كل هذا الألم، لا يمكن تجاهل حجم الكارثة التي تخلفها الحرب على أطفال غزة.
يقول د. إسماعيل الثوابتة، مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة:
حتى نهاية 2025، وثّق القطاع الصحي 1,200 طفل تعرضوا للبتر نتيجة القصف المباشر، وهم يشكلون 22% من إجمالي حالات البتر المسجلة خلال الحرب. خلال عام 2025 فقط، تم تسجيل 251 حالة تشوّه ولادي مرتبطة مباشرة بالحرب، و375 حالة ولادة لأطفال متوفين خلال الأشهر العشرة الأخيرة.
هذه ليست أرقام ...بل أحلام وحيوات بترتها الحرب ، فخيمت على أحمد كغيم ثقيل ويزداد حلكة كلما شاهد من مثله أو أسوأ ، لكنه يدرك أن الألم ليس فردياً ، بل جزء من مأساة أوسع مستمرة بحق الطفولة والحق في الحياة. ، ربما تنتهي أو انتهت الحرب … لكن من سيعيد لأحمد وأطفال غزة جسدهم الكامل وحياتهم الطبيعية .

