الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 4:38 AM
الظهر 12:38 PM
العصر 4:15 PM
المغرب 7:17 PM
العشاء 8:37 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

أصوات رمضان

الكاتب: سما حسن

كشفت الباحثة في مركز تاريخ المشاعر، سارة شاني، أن هناك سبعة مشاعر لدى البشرية أصبحت منقرضةً في العصر الحالي، منها "النوستالجيا"، وهو شعور الحنين إلى الماضي، وغالباً ما نستخدم هذا اللفظ، حين نغرق في المادية وتطغى التكنولوجيا، فنتحدّث عن أيامٍ خلت، ونسند رؤوسنا المرهقة إلى مساند مقاعدنا، ونعود بها إلى الوراء. ولكننا في الحقيقة نعود بذاكرتنا إلى الوراء، ونبقى على هذا الحال للحصول على جرعةٍ من "النوستالجيا"، ونحن لا نعتقد أننا نعاني من مرضٍ عُرف قديماً، وقد كان يصاب به البحارة على وجه الخصوص، وتحديداً في القرن الثامن عشر، وحيث كان البحارة على متن السفن التي تغيب في البحر شهوراً، يشعرون بالفتور والكسل وعدم القدرة على العمل، وكذلك بآلام جسدية مبهمة. وغالباً ما تفضي هذه الأعراض إلى الموت، والسبب الرئيسي لهذه الأعراض هو الحنين إلى الوطن، والشوق للمنازل الدافئة حيث أجواء الأسرة.

نُصاب، في شهر رمضان، بشعور النوستالجيا الذي لا يعني أننا مرضى بالطبع، ولكنه يعني أننا ما زلنا نحمل روحاً صافية لم تلوّث، وقلباً نابضاً لم يتحوّل إلى آلة، ونتحدث في ما بيننا وبين أنفسنا عن الماضي الجميل شهراً يمر سريعاً، ولكنه ليس مثل باقي الشهور، ولا نستطيع أن نجعله كذلك، إلا حين يصبح عبئاً لا تخفيفاً، وحين يتحول عادة لا عبادة، وحين يغدو مظهراً لا جوهراً، وحين لا نرى فيه سوى تغيير الطقوس والإسراف والتفكير في موائد الطعام.

لشهر رمضان شخصيةٌ كاسحةٌ لا نستطيع أن نقاومها، فصوت حركات أمي في مطبخها الصغير لا يبارحني، ويطرق على أذني بحنين جارف، حين كانت تصحو في جوف الليل الأخير، وتبدأ بدقّ حبات الفول المسلوقة في وعاءٍ من الألمنيوم، ومستخدمة أداةً للدق مصنوعة من الخشب "المدقّة". ولنا أن نتخيّل أي إيقاعٍ ساحر يصل إلى أذنيك الصغيرتين، وأنت تحت الفراش مرهفاً لصوت الحياة في بيتك، حين يمتزج صوت معدنين مختلفين، استطاعت أمك أن توثق علاقتهما ببعضهما بعضا، فنتج هذا الصوت المحبب، وتلته رائحة أكثر تحبباً، وهي رائحة حبات الفول المسلوقة، والتي أضافت إليها أمك للتو خلطة الثوم والفول والليمون، وتتململ في فراشك منتظراً صوتها، حين تقف على باب الغرفة، وهي تلهث وتطالبك بالنهوض مسرعاً قبل انطلاق صوت الأذان.

ها أنا قد وضعت صوت حركات أمي على قائمة الأصوات التي تشكل شخصية رمضان، يليها صوت أبي، وهو يتلو القرآن في زاوية، ويردّد أدعية الوضوء قبلها، في حوض بعيد عن الحمام وقريب من باب غرفة نومي، فأحفظ هذه الأدعية بصوته، وتترسب في ثنايا عقلي وذاكرتي، وأستعيدها بسرعة، وأحبها لأني أحب صوت أبي حين كان يردّدها.

وصوت المسحراتي الذي يأتي قبل موعد السحور بوقت طويل، وحين كان يأتي صوته كانت تتملكني رغبةٌ عارمةٌ بأن أنطلق خلفه، وأجوب الشوارع المظلمة. ويبدو أن هواية اكتشاف الشوارع وهي خالية بدأت عندي منذ الصغر، لأن للشوارع هوية تضيع حين تعجّ بالناس، وتصبح كلها متشابهة، وتعود حين تخلو من الأصوات والحركة.

وصوت آخر كان يأسرني، وأحن إليه في كل رمضان، هو صوت زوزو نبيل، والذي كان يسحرني، حين يأتي عبر المذياع، وهي تقول "مولاي"، وهي تتثاءب وتتمطّى. وأتخيلها وهي تفعل ذلك، والملك يجلس في حضرتها منبهراً ومنتظراً كل كلمة تقولها، وهي تروي له قصصاً تشبع خياله، وتبدع في رواية القصص، لتطيل من عمرها ليلة أخرى. ومبكّراً جدا أدركت أن الإنسان قد يدافع عن مبدأ بشتى الطرق، مهما كانت مكلفة، وهي كانت تدافع عن بنات جنسها، وتعلم الملك درساً لن ينساه، وسيغير حياته بنهاية سعيدة، كما كل الروايات.
إن قتلتك "النوستالجيا" في هذا الشهر، وصرت أسيراً لذكرياتٍ مضت، فاحتفظ بذلك لنفسك، ولا تخبر أحداً، فبعض الحنين غباء في نظر بعضهم، وبعض الحنين بقايا إنسانية إن صدقنا الوصف.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...