الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 4:33 AM
الظهر 12:37 PM
العصر 4:15 PM
المغرب 7:20 PM
العشاء 8:41 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

طفلٌ ضائعٌ أبحث عنه في "ليون"

الكاتب: محمد مسالمة

تتهادى بي الطائرة فوق مقاطع من سلسلة جبال الألب، أطل من نوافذها على مشاهد الثلوج والمرتفعات العالية، وعلى حين عبورنا وسط كتلة من الغيوم الكثيفة، أخذتني الطبيعة بنعومة- أهيم في محاريب جمالها- من التضاريس القاسية نحو السهول الخضراء والمروج الشاسعة.. فيما تزداد الرؤية وضوحاً كلما اقتربنا من مطار مدينة ليون الفرنسية.

في اليوم السابق، وكما تعودنا نحن الفلسطينيين، على أن يكون تجمعنا الأول في عمان، انطلقت برفقة وفد يزيد عن 25 عضواً، يمثلون مختلف الوزارات والهيئات والمجالس المحلية، في عمل تنموي وثقافي مشترك، يُسلط الضوء على الثقافة الوطنية والهوية، ذهبنا لنستقي بعضاً من التجربة الفرنسية في حفظ التراث وترويجه وحمايته. جمعتنا إلى هذه المهمة مؤسسة "مسار إبراهيم الخليل"؛ ضمن شراكة المؤسستين الفرنسيتين "أفرات وتتراكتيس"، ومعهد الشراكة المجتمعية بجامعة بيت لحم ومركز التقارب بين الشعوب، وبتمويل من الاتحاد الأوروبي والوكالة الفرنسية للتنمية.

بعد أن لامست عجلات الطائرة أرض المطار، التقينا الأصدقاء من المؤسستين.. ثم خرجت من المطار أبحث عن إجابة لسؤال مبيّت في عقلي، أبحث عن إجابته وكأنه طفل ضائع، أبشركم أنني سأجده في أروقة مدينة ليون، سأعرفكم عليه وأوصف لكم تفاصيله. الساعة الآن الثانية عشرة ظهراً حسب التوقيت المحلي، ركبنا في الحافلة وأكملنا السفر إلى "أوترانس".

مالت الشمس نحو الغروب، في منطقة ريفية تدعى "اوترانس" تبعد مسافة ساعتين عن ليون، بدأت ليلة ريفية جنوب شرق البلاد، تعرّضت خلالها لأول تجربة بعد الوصول وهو المشي في المسار السياحي الثلجي على جبال الألب، ثم تناولنا العشاء "رفيولا" على الطريقة التقليدية للفرنسيين في مطعم "جيف"، حيث تتراكم الثلوج على أطرافه، فيما يملأ الدفء أروقته. تلك المنطقة غاية في الروعة، وخاصة لممارسة رياضة التزلج، يظهر ذلك في توفير البنية التحتية للهواة، وتصميم مسارب التزلج من أعالي الجبال والمرتفعات الوعرة المغطاة بالغابات الكثيفة إلى الحقول المترامية على أطراف القرية.

وفي الصباح غادرنا اوترانس إلى مدينة "ليون"، وفي انتظارنا جولة معرفية دسمة، وزيارة لبلدية ليون ومتاحفها، تلك المدينة الساحرة، ترى في ملامحها تعاقب السنين وهوية القاطنين، وكأن مبانيها سطورٌ متتابعة تروي تطور العمارة والحضارة والعراقة. وقفنا قرب الكاتدرائية المطلة على أجزاء كبيرة من المدينة، والتي دخلت ضمن قائمة التراث العالمي لليونيسكو عام 1998.

ليون مدينة النهرين "الرون والسون"، يعود تاريخها للعصور القديمة، أرى فيها تنوع الجغرافيا، تلالٌ وسهولٌ وأنهار وجبال، ومبانٍ قديمة تتناثر فيها كلوحة فنيّة لرسّام عالمي، إلى جانب الأديرة والقصور العتيقة. وعلى الناحية الشرقية من الكاتدرائية يشير الدليل السياحي بيده نحو مبانٍ يعود تاريخها لمئات السنين، قال إنها اشتهرت بمشاريع عائلية لإنتاج الحرير والغزل والنسيج.

عبرنا الطريق إلى المدرج الروماني، ورأينا مسرحاً يتوسطه، ينشغل طيلة ليالي الصيف في مهرجانات واحتفالات دورية تقام في المدينة، بالإضافة إلى المناسبات الوطنية للفرنسيين، فهو مكان جاذب للسياح، ترى فيه روما القديمة بكل فنونها وجبروتها.

دخلنا في أزقّة طويلة بين منازل المدينة، ترك الزمان على حجارتها سحراً عتيقاً، فيها يقطن المواطنون، ولم يظهر أنهم قد هجروها يوماً واحداً، بل إنهم يرحبون بالزائرين بكل سرور، ومتفقون على هذا الترحيب؛ لأنهم أدركوا بشكل جماعي منذ سنوات طويلة على أهمية المدينة التي يعيشون فيها، وشغف السائحين لاستكشافها.

سرد لنا الدليل السياحي قصّة تاريخية عن المدينة، حيث كادث مبانيها تهدم بقرار إداري ويضيع جزء كبير من هذا الإرث، ويتم استبداله بالطرق والجسور في سنوات الاربعينيات من القرن الماضي، بقرار من رئيس البلدية آنذاك، إلّا ان مجموعة من المواطنين سارعوا لتأسيس جميعة محلية للرد على هذا المقترح وابطاله في سبيل الحفاظ على المباني التراثية.. اتفق أعضاء الجمعية على هذا الهدف وأطلقوا عليها اسم جمعية "نهضة ليون"؛ وهنا بدأت الاجابة على الأسئلة الهامة، كيف وصلت المدينة إلى قائمة التراث العالمي؟ ومن هنا بدأنا نلتمس بداية حياة ذاك الطفل الذي كاد يتوه للأبد في "ليون".

الجمعية ما زالت قائمة، والآن عمرها يزيد عن سبعين عاماً، وفي ورشة عمل تبعت هذه القصة، دخلت سيدة عجوز تدعى "أنيك ليود"، هي من المؤسسين للجمعية، ورغم تقاعدها عن الخدمة، إلّا أنها ما زالت تواصل عملها كمتطوعة في جمعية "نهضة ليون"، لحماية التراث. هذه ملامح لطفل ضائع لم نجده بعد في بلادنا، منه تنطلق شعلة الحفاظ على الهوية وتعزيزها مادياً ومعنوياً، لاسيّما وأن فلسطين لديها عمق تاريخي يمتد لما قبل الميلاد.

تابعنا والجميع يستحضر العديد من الأسئلة عن القوة التي امتلكتها الجمعية، والنتائج التي ترتبت على تأسيسها، وقدرتها على اقناع المجتمع بعد ذلك لمساعدة البلدية على استقطاب السائحين إلى الأزقة التاريخية دون أن يؤثر على حياة المواطنين وخصوصيتهم. المجتمع طاقة جبّارة وكامنة، ودوماً يحتاج للتنوير ولبلورة مواقف ذات نظرة تعكس التفكير الجماعي. المهم، أكملنا جولتنا حتى جاء المساء، واستقر بنا المسير في مدينة "بوي أون فيلاي"، التي تقع على نهر لوار، وتشتهر بالعدس الذي تناولناه على العشاء مع سمك السلمون المطهي بالبخار، على يد "شيف" مغاربي.

مضت ليلة سريعة، وأصبحنا نتجول في البلدة القديمة لمدينة "بوي أون فيلاي"، نستزيد من التجربة الفرنسية لكيفية الترويج للأماكن التراثية والأثرية وحفظها، ما يميزها ألوان مبانيها المتعددة والزاهية، وبرفقة الدليل السياحي للمدينة وصلنا إلى نقطة انطلاق مسارات "سانت جيمس" الشهيرة، التي تقطع سبع دول أوروبية، إذ استفاض الحديث عنها في الصباح داخل صالة ذات ديكور بديع. ومن الجيد أن هذه الصالة تعرّفنا فيها على أهم ملامح النظام السياسي والتقسيم الإداري في فرنسا، فهي تقع في مبنى "الدائرة"، والدائرة هيئة تضم تحت لوائها عدد من البلديات، ثم إن الدائرة تعد حلقة وصل بين "البلديات" و"الإقليم" الذي يضم عدداً من الدوائر، ويرأسه الوالي ويكون على اتصال مباشر ودائم مع رئيس الجمهورية. فالبلاد تضم 22 إقليما!

عند المساء غادرنا "بوي أون فيلاي" إلى مدينة "غرونوبل"، التي ستكون نقطة لتحركنا في الأيام القادمة، وصلنا في ساعة متأخرة، حتى أطل الصبح وأدركت أن المدينة كأنها وادٍ كبير تلفه الجبال الشاهقة من ثلاث جهات، تغطيها الثلوج، وتأتي منها نسمة باردة تعيد عليك نشاطك رغم مشقة السفر وتعب الجولات الدائم والمعلومات الوفيرة التي أستقيها في كل خطوة.

تابعنا المهمة الميدانية في زيارات لقلعة الباستيل بالتلفريك، حيث تبدو مدينة غرونوبل مشهد واحد، ثم إلى الأرياف الفرنسية التي تحاول أن تكون جزءاً من السياحة الوطنية من خلال الاستثمار في بناء الأكواخ واستضافة السيّاح، ومتاحف الطاقة ونبات الجوز، وما يلفت الانتباه أن الشركات والبلديات والمؤسسات تعمل وكأنها جسم واحد في الترويج والتسويق لكل هذه الأماكن.

صعدت بنا الحافلة في اليوم الأخير إلى مغارة كورانش التي تم اكتشفها قبل أكثر من نصف قرن، وسط جبل صخري شاهق، جوّفته المياه وأذابت صخوره كلما تسللت من الشقوق في أعالي الجبل، فالصواعد والهوابط الرملية داخل المغارة يزيد عمرها عن مئات السنين، وبعضها تزيد طولها عن 3 أمتار، تتراكم نقطة بعد الأخرى، والمسافة تصل لـ 300 متر بينها وبين قمّة الجبل، حيث يذوب الثلج وتتسلل المياه. في المغارة المظلمة لا يسمح بالضوء لفترات طويلة حتى لا تؤثر حرارته على انجماد الهوابط فتنهار، فالزائرون مضطرون للانتظار، كلما انتهى المسار لمجموعة- بعرض فني يرتكز على الموسيقى والاضاءة في حجرة شديدة الظلام- بدأت الأخرى.

عشرات المزارات تتسم باللانهاية للمعلومات والحكايات، لا تشير إلّا على شيء وحيد وهو الاهتمام بكل التفاصيل التاريخية والتراثية والترويج لها بكل الوسائل، صغيرة كانت أم كبيرة، فالتعمق في معرفتها والتمعن في جوهرها يصنع مجد البلاد وحضارتها، فوراء كل حجر رواية، تربط الروح في المكان، وتدعوها للبقاء.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...