لحظة فاصلة تستوجب مراجعة شاملة لمسار المشروع الوطني الفلسطيني

الكاتب: فادي أبوبكر
يشهد الواقع الفلسطيني اليوم حالة عميقة من التشظي والتوتر، تعكسها بوضوح نتائج الاستطلاع الأخير الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في مطلع أيار/مايو 2025. ولا تقف الأرقام عند حدود الرأي العام، بل تفتح نافذة على أزمة وطنية تتجاوز الانقسام السياسي لتصل إلى مستوى الانقسام الوجداني والذهني داخل المجتمع الفلسطيني نفسه، الذي يرزح تحت وطأة حرب إبادة، ومشهد سياسي مأزوم، وغياب شبه كامل للأمل.
يشير التراجع في تأييد حركة حماس إلى تغير ملموس في الموقف الشعبي، ويعكس حالة من الإعياء الجماعي والخيبة المتراكمة تجاه الحركة. ومع ذلك، يظل غالبية الفلسطينيين، رافضين لفكرة نزع سلاح المقاومة، في دلالة واضحة على تمسّك عميق بخيار الدفاع عن الذات ورفض الخضوع، حتى في ظل الألم. وفي الوقت ذاته، تظهر نتائج الاستطلاع أن ما يقارب نصف سكان القطاع يدعمون الاحتجاجات ضد حماس، ونسبة مشابهة تبدي استعدادها لمغادرة غزة لو أتيحت لها الفرصة. هذا التناقض يعكس بجلاء مدى الانقسام النفسي بين التمسك بالهوية الوطنية، والرغبة في الهروب من جحيم الواقع.
الملفت أيضاً أن التأييد للكفاح المسلح يشهد تراجعاً ملموساً، ما لا يعني بالضرورة تخلّياً عن المقاومة، وإنما انتقالاً نحو البحث عن أشكال أخرى للنضال، تكون أكثر واقعية وأقل كلفة إنسانية. وفي المقابل، لا يزال حل الدولتين يحافظ على دعم نسبي، في مؤشر على بقاء الرغبة في التسوية السياسية قائمة، رغم تآكل الثقة في جدواها بسبب الممارسات الإسرائيلية والانقسام الفلسطيني وغياب الإرادة الدولية الفاعلة.
ما تكشفه هذه المؤشرات ليس مجرد تبدّل في المزاج، بل لحظة مفصلية في الوعي الوطني الفلسطيني، ولحظة تحوّل تفرض على جميع الفاعلين، من قوى سياسية ومجتمعية، مراجعة شاملة وجادة للمسار الحالي. حيث أن هناك إرادة واضحة لدى الشعب الفلسطيني لإحداث تغيير حقيقي، لا يقتصر على تغيير الأشخاص أو الفصائل، بل يمتد ليشمل البنية الكاملة للمشروع الوطني، وآلياته وأدواته. ولعلّ المدخل الحقيقي لهذا التغيير هو إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أسس واقعية وشاملة، توفّق بين الكفاح المشروع والنضال السياسي، وتخرج من عباءة الانقسام المدمر، وتتبنى مساراً إصلاحياً يعيد توحيد المؤسسات الوطنية من خلال انتخابات ديمقراطية وشاملة.
ضمن هذا الإطار، تبدو منظمة التحرير الفلسطينية هي المظلّة الوحيدة القادرة على احتضان المشروع الوطني إذا ما أُعيد تفعيلها على أسس ديمقراطية تمثيلية. كما أن إعادة إعمار قطاع غزة بعد الحرب لا يمكن أن تتم تحت وصاية خارجية أو عبر ترتيبات أمنية تُفرض من الخارج، بل من خلال إدارة وطنية تشاركية، تديرها كفاءات وطنية تحت إشراف منظمة التحرير، وبدعم عربي ودولي منسق، يمنع فرض حلول جزئية تُضعف وحدة القضية.
لا يمكن أن تستمر حالة الغضب والخوف والشك بلا رؤية سياسية واضحة أو مشروع وطني جامع، خصوصاً في ظل تصاعد جرائم الحرب الإسرائيلية التي تستهدف الأطفال والنساء والمنازل بهدف كسر الإرادة الوطنية. والرد الحقيقي لا يكون بالكلام أو الشعارات فقط، بل ببناء مشروع وطني قوي يحمي الإنسان الفلسطيني ويصون كرامته وحريته.
في هذه الظروف الصعبة، لا يجوز لأي انتماء أن يتجاوز الانتماء للوطن، فلا فصيل ولا سلاح ولا موقع يستحق أن يُقدم على مصلحة الشعب. ومن لا يجعل الوطن أولوية، مهما كان ماضيه أو شعاراته، يكون قد ضلّ الطريق. ومع ذلك، لا يجب أن نفقد الأمل، فبالصبر والثقة والوعي السياسي والوطني، يمكن أن تولد من قلب هذه الفوضى قوة جديدة تفتح أمام الفلسطينيين درب الحرية والاستقلال. فحين يتحول الألم إلى وعي وإرادة، يصبح ذلك نقطة انطلاق لمسار جديد يعبر بصدق عن طموحات الشعب الفلسطيني العظيم.