هدنة الستين يوماً: فرصة لإنهاء الحرب أم فخ لتكريس الاحتلال؟

الكاتب: فادي أبو بكر
تعكس اتفاقيات وقف إطلاق النار بين الهند وباكستان واسرائيل وايران واتفاق السلام بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحولاً دولياً نحو التهدئة مما يجعل الأنظار تتجه بقوة نحو مفاوضات غزة التي يُنتظر أن تشهد دفعة جديدة وفرصاً حقيقية لتحقيق تقدم ملموس، في ظل ساعات يخيّم عليها الترقب والانتظار بشأن مستقبل هذه المفاوضات. حيث تشير مصادر مطلعة إلى أن هذه الجولة قد تكون الأكثر جدية حتى الآن، بفضل تدخل أميركي مباشر وتحرك سياسي مركز بقيادة ترامب.
يتضمن المقترح الأميركي المطروح لوقف إطلاق النار في غزة لمدة 60 يوماً، حزمة معقدة من الترتيبات الإنسانية والسياسية والأمنية. وبينما يسعى المقترح في ظاهره إلى تهدئة طويلة نسبياً، مع إمكانية تمديدها تمهيداً لاتفاق دائم، لكنه في مضمونه يخضع لشروط دقيقة قد تُبقي الوضع القائم على حاله، ولو بصيغة أكثر هدوءاً. حيث يشمل المقترح جدولاً زمنياً لإطلاق سراح أسرى وجثامين، وتدفقاً للمساعدات الإنسانية مقابل انسحاب تدريجي للجيش الإسرائيلي من مناطق محددة في غزة وفق خرائط يتم التوافق عليها. تبدأ في اليوم الأول مفاوضات حول وقف دائم لإطلاق النار تتناول تبادل الأسرى بالكامل، والترتيبات الأمنية المستقبلية في غزة، إلى جانب ترتيبات “اليوم التالي” للحرب، وانتهاءً بإعلان وقف دائم وشامل للنار.
تسعى الولايات المتحدة من خلال هذا المقترح إلى إدخال حركة حماس وإسرائيل في آلية تفاوضية مشددة زمنياً، مع توفير ضمانات من الرئيس ترامب نفسه لالتزام الطرفين بها، وتعهده بالإشراف المباشر على تنفيذ الاتفاق. إلا أن هذه الضمانات تصطدم بواقع ميداني معقّد، حيث تستمر القوات الإسرائيلية في تنفيذ عمليات عسكرية داخل القطاع، وسط تهديدات من رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بمواصلة الحرب حتى القضاء الكامل على حماس. وفي المقابل، تبدي الحركة مرونة محسوبة، إذ ترى أن نجاح أي مفاوضات مرتبط بجدية الطرف الآخر، وبمدى التزام المجتمع الدولي بتطبيق قرارات الشرعية الدولية التي تنص على انسحاب الاحتلال من كامل الأراضي الفلسطينية، بما فيها غزة.
في ظل هذا المشهد، تبرز المخاوف من أن تكون الهدنة المقترحة مجرد وسيلة لإعادة إنتاج الواقع الحالي، لا لإنهائه. فالحديث عن انسحابات تدريجية من دون جدول زمني واضح للانسحاب الكامل، والإبقاء على آلية معونات تخضع لإشراف الاحتلال، يُكرس الاحتلال بصيغة مموّهة. كما أن فرض شروط مسبقة على الترتيبات الأمنية و”اليوم التالي” دون حوار وطني فلسطيني شامل، يعني المضي في سياسة تقويض الوحدة الفلسطينية، بل وتعميق الانقسام الجغرافي والسياسي بين غزة والضفة.
ما يعزز هذه المخاوف هو ما يشهده قطاع غزة من أوضاع إنسانية كارثية، حيث لم يتبقّ وفقاً للأمم المتحدة سوى أقل من 18% من مساحة القطاع متاحة للسكان، في ظل تزايد القصف الإسرائيلي والنقص الحاد في المأوى والغذاء والماء والدواء. ويفتح استمرار هذا الواقع، بالتوازي مع تقديم مقترحات جزئية أو مؤقتة، الباب أمام سيناريو الفوضى الداخلية، ويمنح الاحتلال ذريعة للمراوغة والتهرب من الحلول النهائية.
في هذا السياق، يبقى أمام حركة حماس خيار استراتيجي: إما الدخول في هذه التهدئة المؤقتة دون ضمانات حقيقية للانسحاب الكامل وإنهاء الحرب، وبالتالي الوقوع في فخ التهدئة مقابل تثبيت الاحتلال، أو العمل على تحويل هذه الهدنة إلى فرصة لبناء وحدة فلسطينية حقيقية، عبر ربط أي اتفاق بإعادة ترتيب البيت الداخلي، وإنخراط الحركة في استراتيجية وطنية نضالية موحدة تحت إطار منظمة التحرير الفلسطينية، الجهة الشرعية والوحيدة المعترف بها دولياً. وهذا ليس فقط مطلباً سياسياً، بل ضرورة وطنية لحماية سيادة غزة ومنع تمرير أي مخطط إسرائيلي أميركي يرمي إلى إدارة الانقسام الفلسطيني بما يخدم استمرار الاحتلال ومنع إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
وفي الختام يمكن القول أن المقترح الأميركي، رغم ما يحمل من إمكانات لوقف مؤقت لحرب الإبادة وتخفيف معاناة المدنيين، لن يؤدي إلى استقرار حقيقي ما لم يُرفق بخطوات واضحة وملزمة لإنهاء الاحتلال واستعادة وحدة القرار الفلسطيني. فالتاريخ القريب يُثبت أن الهدن الهشة لا تصنع سلاماً، بل قد تتحول إلى غطاء لمرحلة أكثر دموية، والمطلوب اليوم ليس فقط هدنة، بل تسوية عادلة تُنهي جذور الصراع، وتفتح الطريق أمام حل سياسي شامل يضمن العدالة والاستقلال للشعب الفلسطيني.