الضفة بين فكّي الضم والزحف الاستيطاني: قراءة قانونية في قرار الكنيست الإسرائيلي الأخير

الكاتب: بدر زماعرة
في لحظة فارقة لا تقل خطورة عن أي تصعيد عسكري، صوّت الكنيست الإسرائيلي، يوم الثلاثاء 23 تموز 2025، لصالح قرار يدعو إلى فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، بمكوناتها الجغرافية والديموغرافية كافة. ورغم أن هذا القرار غير ملزم من الناحية التشريعية، إلا أنه يحمل دلالات بالغة التأثير، ويُشكّل نقطة ارتكاز في سياق استراتيجي ممنهج يسعى إلى تفكيك ما تبقى من النظام القانوني الدولي الناظم لوضعية الأراضي الفلسطينية المحتلة.
لقد عبّرت دولة الاحتلال، مجددًا، عن رؤيتها الحقيقية لمصير الأرض الفلسطينية: رؤية استعمارية تُحيل القانون إلى أداة توسّع، والمستوطنة إلى معيار سيادة. القرار لا يضيف فقط شرعية سياسية للمشروع الاستيطاني، بل ينقلنا إلى مرحلة جديدة عنوانها: تحلل إسرائيل الكامل من التزاماتها كقوة احتلال، وانقضاضها الصريح على مبدأ عدم جواز اكتساب الأراضي بالقوة.
من الناحية القانونية، يشكّل هذا القرار امتدادًا لانتهاك واضح وصريح للمادة (49) من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تحظر نقل السكان المدنيين إلى الأراضي المحتلة، وهي القاعدة التي كرّستها محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري بشأن الجدار في عام 2004، عندما أكدت أن جميع المستوطنات المقامة في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية غير قانونية. بل إن أي إجراء تشريعي أو إداري يهدف إلى تغيير الوضع القانوني لهذه الأرض هو لاغٍ وباطل بموجب قواعد القانون الدولي الإنساني، والعديد من قرارات مجلس الأمن، لا سيما القرار 2334 لسنة 2016.
لكن إسرائيل لا تعبأ بالقانون الدولي، بل تتقن التلاعب به، وتوظيف الصياغات الرمزية في الكنيست كممرات نحو التثبيت التدريجي للسيادة. فما يُسوّق بوصفه “قرارًا غير ملزم” ليس بريئًا من حيث الأثر؛ إذ يُستَخدم في الواقع كمرجعية سياسية ومصدر شرعية لاحقة لأي خطوات تشريعية أو تنفيذية مستقبلية. وهو ما جرى سابقًا في قانون “تنظيم الاستيطان” لعام 2017، وما يتكرر اليوم على نطاق أشمل وأكثر عدوانية.
في السياق السياسي، لا يمكن فصل هذا القرار عن البيئة الإيديولوجية الحاكمة لإسرائيل اليوم؛ حيث تسيطر أحزاب دينية وقومية متطرفة تتعامل مع الضفة الغربية باعتبارها “أرضًا موعودة”، لا كساحة احتلال تحكمها قواعد القانون الدولي. وهنا يصبح الضم ليس فقط إجراءً سياديًا، بل فعلًا لاهوتيًا محمولًا بنزعة استيطانية لا تقبل الشراكة أو الاعتراف بالآخر.
إن ما نشهده هو تصفية ممنهجة للفكرة الفلسطينية، واستكمالٌ بطيء لمشروع الضم الذي بدأ منذ سنوات على الأرض قبل أن يُترجم سياسيًا وتشريعيًا. ومع كل خطوة جديدة نحو هذا الهدف، تتآكل المسافة بين الواقع القانوني والواقع الميداني، لتُفرض “حقائق جديدة” يصعب كسرها دون كلفة كبرى. أما الرد الدولي، فيتراوح بين الإدانات الخطابية والمواقف الشكلية، ما يعمّق الشعور بأن النظام القانوني الدولي، رغم وضوحه النصّي، بات عاجزًا عن فرض الإرادة القانونية على دولة تُعامل القانون باعتباره توصية أخلاقية لا أكثر.
وهنا تبرز خطورة أن يتحول الصمت العالمي إلى شكل من أشكال التواطؤ، وأن يتحول القانون إلى لغة بلا سلطة. في مواجهة هذا الانقلاب على القانون الدولي، لا بد أن يكون الرد الفلسطيني متعدد المستويات: قانونيًا عبر التفعيل الجاد للمسارات الدولية أمام المحكمة الجنائية والعدالة الدولية، وسياسيًا عبر إعادة بناء خطاب وطني موحَّد لا يساوم على الأرض ولا يتعامل مع المشروع الاستيطاني كمؤقت أو قابل للاحتواء. أما شعبيًا، فالمطلوب اليوم تعزيز المقاومة المجتمعية، وتثبيت الناس في أرضهم، وإعادة الاعتبار لفعل الارتباط بالأرض كفعل مقاومة يومي.
القرار الصادر عن الكنيست ليس نهاية المعركة، لكنه إعلان واضح عن مرحلة جديدة من الاستعمار، تُدار بلغة القانون لكن بأدوات السيطرة.
هو اختبار للمنظومة الحقوقية الدولية ولقدرتنا كفلسطينيين على الصمود والتصدي. أما التاريخ، فسيحفظ أن الضفة لم تكن يومًا كيانًا قابلاً للضم، بل ساحةً ممتدة للكرامة، تستعصي على المحو.