لماذا لا يتقبّل اللهُ دعاءَ المسلمين؟ -المساجدُ بين أرسطو وبريخت-

الكاتب: المتوكل طه
***
تعوّدنا،منذ قرون على أن نرفع أيدينا ونلهج بالدعاء إلى الله تعالى،لكي يهزم أعداءنا ويمزّق شملهم،ويفكّ أسْرانا ومَسْرانا،وأن يفتح علينا أبواب رزقه،ويزوّج الأعزب ويشفي المريض،ويرحم الموتى،ويكفينا شرّ الأشرار،ويولّي علينا خيارَنا،ويحفظ بلادنا،وأن يهدينا سواء السبيل والصراط المستقيم.والنتيجة أن الله تعالى لم يستجب للأكفّ المرفوعة وللألسن المُلحفة وللدموع الراجية،منذ عقود.وهذا طبيعي،لأن المولى،عزّ وجلّ،لن يقومَ مقام الناس ويغيّر أحوالهم،وهم جالسون،كسالى،يتّكلون على غيرهم ليبدّل حالهم،ولا يفعلون سوى الكلام.فالله سبحانه وتعالى،لن يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم،ومثلما تكونوا يولّى عليكم.فإن كانوا منافقين،عاجزين،وجبناء يخافون القيام بما يجب أن يقوموا به،فلماذا يرضى اللهُ عنهم ويحقّق دعاءهم؟وكيف يقوم بدلا عنهم بفعل ذلك،وهو القادر على كل شيء!إن ذلك سيبقيهم عبيداً مُستلَبين ضعفاء،خائفين من الذي يستلبهم ويقمعهم ويصادر حقوقهم.وواجبهم؛أن يستنفروا قواهم ويعلوا أصواتهم ويجابهوا الظالم،بأجسادهم وإرادتهم،مهما كلّفهم ذلك.أليس قول كلمة حقّ أمام سلطان جائر هي أعلى مراتب الشهادة؟ألم يقل الرسول،عليه وعلى آله الصلاة والسلام:مَن رأى منكم مُنكراً فليغيّره بيده،إلى آخر الحديث الشريف..فلماذا نسي المسلمون التغيير بأيديهم،واستمرأوا التغيير بالدعاء المكرور الذليل الذي لا يعوَّل عليه؟
إن الله تعالى لن يتقبّل دعاء الجموع والمُصلّين،لكنّه يقبل دعاء الأفراد المظلومين غير القادرين والمغلوب على أمرهم،الضحايا المعذورين،الذين لا يمتلكون وسيلةً للتغيير.أما آلاف وعشرات الآلاف والملايين من الداعين في المساجد،فَعليهم أن يخرجوا إلى الشوارع ويطالبوا الحاكِم بردّ المظالم وإحقاق العدالة ونصرة المظلوم،وعندها سيعينهم الله تعالى.أما أن يطلبوا من الله فقط،فإن ذلك يريح الحاكِم الذي يتفرّج،بسعادة،على أولئك الذين أعفوه من حقوقهم،والتجأوا إلى مَن لم يظلمهم.والحاكِم يريد لهذه الآلاف أن تبقى داخل جدران المساجد؛تدعو وتبتهل وتبكي.ولسان حاله يقول للمسلمين:"إذا أردتم شيئا فاطلبوه من ربّكم،وليس منّي"!وهذا ما يكرّس الظلم ويعفي الظالم.فلو خرج الآلاف إلى الساحات والمفارق ورفعوا مطالبهم،كما يرفعونها لله،لتزلزل كرسيّ الحاكم،ولَخاف على حُكْمه،وفَعَل الصوابَ،اتقاءً للتمرّد والسؤال الثقيل.
والحاكِمُ عبر التاريخ مبتهجٌ بهذه المعادلة،التي وفّرت للناس متنفّسا لغضبهم،عند كل صلاةٍ جامعة!فيخرجون وقد طلبوا ما يريدون من خالقهم،وكلّهم وَهْمٌ بأنهم قاموا بما عليهم القيام به!وهذا عين الخطيئة وقلب الخدعة،لأن كل واحد عليه أن يستردّ حقوقه ممَن أخذها منه،قهرا وغصْبا.ولن يرضى الله لأن يبقى المظلومُ عاجزا مُهانا ذليلا،يرجو من غير الظالم،لأن يعيد له حقوقه.
إن الحاكِم يعرف جيداً خطورة ذلك،فيسارع إلى الطلب من شيوخ السلاطين لأن يزيدوا في الدعاء والنحيب والرجاء وسحّ الدموع والتضرّع للخالق القدير،لأن في ذلك تحقيقا لنظرية أرسطو الملعونة!
فأرسطو الحاذق؛يؤمن أنه عبر الشفقة والخوف يتطهّر الإنسان (المُشاهِد أو الدّاعي)،لأن هدف أرسطو هو التصالح مع الواقع بأحسن صوره،وبالتالي يدرك الجوهر على أساس أنه محاكاة.وأقصد:أن أرسطو هدفه التصالح،لأنه من خلال رؤية المسرحية،أو المشاركة بالدّعاء والتضرّع للسماء،يفرّغ ما بداخله من نقمة على الواقع ويخرج من المَشَاهد أو الصلاة(نظيفاً) ليس في خلجه أي بذور نقمة أو غضب على الواقع.وهذا برأيي،تصالح لا يدفع المُشاهد أو الدّاعي لأن يغيّر واقعه نحو الأحسن،لأن التراكمات التي ترسّخت في داخله زالت وذابت بفعل رؤية مسرحية رفْع الأكفّ لله تعالى،ذات النهاية السعيدة والمريحة!أي أن المسرحية(الدعاء) قامت بواسطة (التطهير) بعملية غسل لهذه التراكمات..وهكذا تفعل الدعوات والدموع والتضرّع المنكسر.بمعنى أن الأدعية هي المعادل الموضوعي للمسرح الأرسطي،والقائم على أنّ وظيفته تتغيّا التكيّفية،وليس هناك من أساس لتثوير الواقع أو الاحتجاج ضده.
وإذا عقدنا مقارنة بين مسرح أرسطو طاليس وبين مسرح بروتولد بريخت،فإن موقف بريخت أكثر ثورية (إنسانية).فبريخت عاش في مجتمع رأسمالي،وأرسطو عاش في مجتمع الرقّ والعبودية،أي أنهما عاشا في مجتمع يعتريه التمايز الاجتماعي،ولكن بريخت رفض واقعه،وبالتالي عمل في مسرحياته أول ما عمل،إنه أخرج نظرية التغريب،التي تتضمن:منع حصول التطهير عند المشاهد،لأن التطهير في النهاية يعني إعطاء قدرة على التكيّف مع الواقع بأسمى شكل،وبالتالي يدخل في المحاكاة،وبدل ذلك يدعو إلى حقن المشاهد بالطاقة بدل تفريغها.وبريخت يريد من المشاهد أن يفكّر بالحدث من الخارج وليس أن يتمثّل الحدث،لكي يدفع المشاهد للتغيير ويشحنه تراكمياً،وهذا بالضبط يناقض"تطهير"أرسطو.فمسرح أرسطو عاطفي ومسرح بريخت فكري.بلغة أخرى؛أرسطو يجعل المشاهد يتمثّل الحدث وبالتالي يتصالح مع الواقع ولا يعمل لتغييره.أما بريخت فإنه يجعل المشاهد يرى الحدث من الخارج،لا أن يتمثّله ويتصالح مع الواقع،بل يدفعه لتغييره.فمسرح أرسطو يؤدي إلى خلود الواقع،ومسرح بريخت يؤدي إلى تغييره(التجاوز)،وبالتأكيد فإن موقف بريخت أكثر شمولية ووعياً من موقف أرسطو. بمعنى أننا عندما نشاهد"مسرحية"تتفاعل فيها الأحداث ثم تنتهي نهاية سعيدة،فإن المتفرّج يخرج راضياً،بعد أن تمّ حلّ المشكلات على المنصّة،درامياً،وكذلك يخرج المصلّي الذي دعا ربّه،فيخرج من المسجد مرتاحا!أما بريخت فيريد للمسرح أن يُعبّئ المتفرّج ويحقنه بالوعي والسخط والنقمة،ومن الجامع أن يشحن المُصلّين بالوعي وبما يجب أن يفعلوه،دون تقديم حلّ جاهز نظريّ مريح،بقدر ما يطلب منهم أن يخرجوا إلى الشارع ويغيّروا هذا الواقع الظالم،بأيديهم.ما يعني أن على خطيب المسجد أن يضيء للمصلّي جوانب الحياة ويشير إلى مواطن الخلل والإجحاف،ويطلب من المُصلّين لأن يثوروا على ذلك،لا أن "يُنفّسهم"بالدعاء،وبأن الدعاء هو طمأنة لهم،لأنه رجاءٌ لله ووعدٌ منه،لكي يُبدّل الحال السيء إلى حال أفضل.
يعني؛علينا أن نفهم بأن أداة التغيير هي الفعل،وليس الكلام.وإن كان دعاءً للمولى،عزّ وجل.
والدعاء وسيلة المؤمن للتضرع إلى الله تعالى،بعد أن يستنفذ العمل المطلوب،ويقوم بكلّ الأسباب،والإجابة على الأسئلة،عملياً وفعلاً،والإيمان بأنه وحده مالك الملك شرط للاستجابة،باعتباره الصمد القادر على الإسناد والتوفيق.
ويتمّ من خلال الدعاء إظهار الاعتماد الكامل عليه،سبحانه،في جميع الأمور،بعد أن لا تبقى ذريعة إلا وقمنا بسدّ ثغرتها.
وعلى الداعي أن يكون متصالحا مع الله نظيفا من الخطايا،ما وسعه ذلك،أو يرجو المغفرة بعد التوبة النصوحة ليتطهّر من الذنوب،ويعلم أنه سبحانه هو القادر على كل شيء،وأنه هو الغنيّ الحميد،وأنه الحكيم العليم،الذي دعانا للعمل:"وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون".وأَمَرَ لأن يكون الدعاء عملا،وليس كلاما وإجهاشا باللغة وترداداً دون فعل حقيقي ملموس.
الدعاء هو أن نبدّل الواقع بأيدينا،وليس بكلمات باكية عاجزة.فالله تعالى،لم يُجامِل،حتى الأنبياء،حين فَرَضَ سُنَنه،فقال"اعملوا،وأعدّوا"،ثم اطلبوا النصرة منه.ألم نقرأ ما قاله الله تعالى للمسلمين بعد معركتيْ"أُحُد وحُنَيْن"،بعد مخالفتهم لأوامره!وكيف نصرهم في "بَدْر"لأنهم أعدّوا واستعدّوا.أما أن لا تعدّوا ولا تعملوا..وتطلبوا منه النصرة،فإنه،قطعا،لن يستجيب لكم.وإن شئتم فابقوا في جحيم الذلّ والهوان والاستلاب،لأنه من فعل أيديكم ومن خوفكم،أيها المسلمون،فغيّروه،أو اخرسوا.
تخيّلوا؛لو خرج كلّ المصلّين من المساجد،إلى الشوارع،يهتفون ويُطالبون..فهل سيبقى الحال على ما هو عليه،أم سيبدّلون الواقع ويغيّرون الحال؟
أجيبوا أيها الدّعاة!يا شيوخ السلاطين!