الحكمه والخذلان

الكاتب: د. أحمد رفيق عوض
سأفترض جدلاً أن قرار إسرائيل باحتلال قطاع غزة مجدداً هو قرار نهائي لا يقصد به التهديد، أو الابتزاز، أو حتى تأخير الانتخابات، أو إرضاء أحزاب المتطرفين المتدينين، سأفترض أن هذا القرار حقيقي، وأنه سيبدأ حسب توقيت المصلحة الإسرائيلية خلال شهر أو شهرين، فمعنى ذلك أن إسرائيل تحشد ما يقرب من نصف مليون جندي لمحاربة مدنيين جوعى لا يملكون سوى أوعية فارغة وأجساد واهنة، سيكون هناك ما يقرب من نصف مليون جندي للانتصار على جبهة فارغة، بلا مرابض دبابات ولا موانئ ولا طائرات ولا بنى تحتية، حتى حماس نفسها، فهي ضعيفة، فقدت معظم قوتها.
إسرائيل بهذا القرار إنما تبدأ الحرب من جديد، وهذه المرة ليس لإنقاذ الرهائن أو تفكيك حماس، بل لإنجاز وتحقيق الأهداف الحقيقية لهذه الحرب، المتمثلة في الاستثمار والاستعمار، ومن جهة أُخرى، فإن بدء الحرب من جديد هذه المرة يعني تجويعاً أكثر وقتلاً أكثر وتدميراً أكثر وتهجيراً محتملاً أكثر بكثير من كل مرة، ولهذا نقول بعالي الصوت إن الإدانات والشجب والمواقف المعتادة لم تعد تكفي، ولم تعد تقنع، بل يمكن اعتبارها موافقة ضمنية وتشجيعاً سلبياً لما يجري.
لا يمكن تبرير أي عذر قد يسوقه هذا الطرف أو ذاك لعدم التدخل أو وقف الكارثة المستمرة منذ سنتين تقريباً في غزة والضفة الغربية المحتلة أيضاً، لا يمكن قبول الحكمة أو ادعائها، ولا يمكن الاستماع إلى تبريرات الحياد أو الصمت أو الخوف أو الترقب، أو حتى قبول هذه الجهود الدبلوماسية، التي لم تسفر إلا عن مزيد من إعطاء الوقت لإسرائيل، ولا نقلل من أهمية الجهود الدبلوماسية، ولكنها تحولت بفعل طول الوقت وقلة الإنجازات وانعدام البدائل إلى ما يشبه الاعتذار أو الاكتفاء بها، باعتبارها أضعف الإيمان.
بعد سنتين تقريباً من القتل والهدم والتدمير والتهجير والتجويع، لا معنى لأي شيء على الاطلاق، لا للمبادرات ولا للاقتراحات ولا للحشود أو الجهود أو التصريحات أو التهديدات الفارغة، بعد سنتين تقريباً، وتحول قطاع غزة إلى صحراء بلقع وغرق أهله في وهدة الجوع والإذلال والموت العبث والمجاني، وتحول شعبنا في غزة إلى هياكل عظمية، فإن من غير المقبول أن نرى ما نرى وأن نسمع ما نسمع من مواقف وأفعال في السر والعلن، ومن غير المقبول أن نطلب من الغرب ودوله وجمهوره أن يوقف ما يجري في غزة، في حين أننا كعرب ومسلمين نفقد القدرة والرغبة والإرادة، لا يمكن أن نرى تحرك الغرب ونخبه وفئاته المختلفة تأخذ مواقف متقدمة لم نكن نتوقع أو ننتظر أن نراها،
فيما نحن كعرب ومسلمين نمارس حياتنا وكأن شيئاً لم يحدث، ولا أُريد هنا أن أسرد الكثير من مظاهر عدم الاكتراث والإهمال والإغفال لما يجري في غزة، ولا أُريد أن أقول أكثر من ذلك، فهناك – للأسف الشديد – من يتبني ويدعم، وهناك من يتشفى وينتقم، لا يمكن قبول ذلك أو السكوت عنه، لا يمكن القبول بمواقف رخوة ومطاطية وغائمة وعائمة فيما المجاعة تضرب أطنابها في القطاع المنكوب، الوقت ليس وقت الحكمة ولا تقديم النصائح ولا التشفي والانتقام، ذلك أن ما يحدث في القطاع نذير بما قد يحدث للمنطقة كلها.
إن تهجير القطاع تفجير للمنطقة، وإن تهجير أهل الضفة تغيير للجغرافيا السياسية، وبدء عهد من الفوضى لا يعلمه إلا الله، إن من مصلحة المنطقة العربية أن تعمل – وهي متأخرة في ذلك – على كبح جماح إسرائيل لوقف هذه الحرب التي تشن فعلياً على مجتمع لا يملك دبابات ولا طائرات ولا أسلحة ثقيلة، عندما تدفع إسرائيل بحوالي نصف مليون جندي إلى جبهة مدنية فلك أن تتخيل ما الذي يمكن أن يحدث، لهذا، فإن مطالبتنا بتحرك عربي وإسلامي حقيقي وجاد وفعال، ليس فقط من أجل وقف التدمير والتجويع والتهجير، وإنما أيضاً لصالح أنظمة وشعوب المنطقة نفسها، إن العلاقة مع إسرائيل – بغض النظر عن طبيعتها وعمقها – لن تفيد أحداً على الإطلاق، فإسرائيل من أسرع الدول في نقض المعاهدات إذا أدركت أنها لم تعد تعمل لخدمتها، لذلك لا أحد يطمئن لعمق العلاقة أو دفئها أو استراتيجيتها أو عدم انقطاعها، لا أحد يطمئن وهو يرى ما الذي يجري في قطاع غزة والضفة الغربية، وهما منطقتان محتلتان حسب القانون الدولي، إسرائيل الحالية إسرائيل عدوانية جداً، تريد إعادة صياغة المنطقة حسب قوانينها وأطماعها ومصالحها، وهي لم تأخذ بعين الاعتبار أو الاحترام أي دولة مهما كانت، قد تقف في طريق أطماعها ورؤيتها الجديدة لإنتاج منطقة عربية جديدة لا علاقة لها بمعاهدتي سايكس بيكو وسان ريمو، نحن أمام عقيدة متطرفة جديدة، إسرائيلية أمريكية، متحكمة وطائشة، لذا وجب الحذر والتحذير.