الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 4:51 AM
الظهر 11:26 AM
العصر 2:17 PM
المغرب 4:42 PM
العشاء 6:01 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

الطالب بين الصدمة والدافعية والتحول التربوي

الكاتب: ياسر أبو بكر

يمثل الطالب في البيئات القسرية محور العملية التعليمية وأشد عناصرها هشاشةً في آنٍ واحد. فهو المتلقي الأول لتبعات الصراع، وأيضًا حامل الأمل في استمرارية الحياة والهوية. في السياقات التي يسودها القهر والعنف، يتحول التعليم بالنسبة للطالب من نشاط معرفي إلى وسيلة للبقاء النفسي والاجتماعي، ومن مساحةٍ لتلقّي المعلومات إلى ساحةٍ لصياغة الذات.

تُظهر التجربة الفلسطينية بوضوح أنّ المتعلم الذي ينشأ في بيئةٍ قسرية يعيش صدمةً مركبة تجمع بين الخوف والحرمان وفقدان الأمان. ومع ذلك، فإنّ هذه الصدمة لا تُنتج بالضرورة العجز، بل يمكن أن تُنتج ما يُعرف في الأدبيات التربوية بـ"الدافعية المقاومة" (Resilient Motivation). فالفقد يخلق لدى كثير من المتعلمين حاجةً أعمق للمعرفة، لأن التعلم يصبح بالنسبة لهم وسيلة للسيطرة على واقعٍ غير قابل للسيطرة. هذه المفارقة، التي حوّلت الألم إلى طاقةٍ معرفية، هي ما جعل التجربة الفلسطينية نموذجًا فريدًا في التربية التحويلية.

من منظورٍ نفسي تربوي، يُظهر التعليم في القهر أنّ التعلّم ليس فقط نشاطًا إدراكيًا، بل عملية تكيفٍ معقدة يسعى فيها الطالب إلى إعادة بناء عالمه الداخلي بعد انهيار النظام الخارجي. فالمدرسة في المخيم أو السجن ليست مكانًا لتلقين المناهج، بل فضاء لإعادة اكتشاف الذات والتوازن. هنا، يصبح المعلم مرشدًا نفسيًا قبل أن يكون ناقلًا للمعرفة، ويصبح زملاء الصفّ شبكة دعمٍ اجتماعية تعوّض غياب الاستقرار العائلي أو المؤسسي. إنّ التعلم في القسر هو عملية شفاءٍ جماعي بقدر ما هو اكتساب للمهارة.

تدلّ الدراسات التربوية في فلسطين على أنّ الطلبة الذين عاشوا تجارب قاسية -سواء في الحصار أو الاعتقال أو النزوح -طوّروا أنماطًا جديدة من التفكير التحليلي والنقدي. فهم لا يتعاملون مع المعرفة بوصفها معطًى جاهزًا، بل بوصفها وسيلة لفهم واقعٍ متغير. ومن هنا يمكن القول إنّ البيئات القسرية، على الرغم من قسوتها، قد تتيح إمكاناتٍ تعليمية مختلفة، إذ تخلق لدى الطلبة حسًّا عاليًا بالمسؤولية والاعتماد على الذات، وتجعلهم أكثر وعيًا بالعلاقة بين المعرفة والحرية.

غير أنّ هذه الديناميكية لا تُخفي التحديات النفسية العميقة التي ترافقها: اضطرابات التركيز، الخوف من المستقبل، الإحساس بانعدام الجدوى. ولذلك، فإنّ أيّ مقاربة تعليمية ناجحة في هذه البيئات يجب أن تراعي البعد العاطفي للطالب بقدر مراعاتها للبعد المعرفي. فالتعلم الفعّال في القسر لا يتحقق إلا حين يشعر الطالب بالأمان والثقة والانتماء. ولهذا، طوّرت المؤسسات الفلسطينية والدولية معًا برامج "التعليم الحساس للصدمة"، التي تدمج بين المناهج الأكاديمية والدعم النفسي الاجتماعي.

إنّ الطالب الفلسطيني في البيئات القسرية لا يتعلم ليجتاز الامتحان، بل ليثبت وجوده. فالتعلم بالنسبة له فعل مقاومةٍ ضد العدم، واستعادةٌ للكرامة في مواجهة العنف. إنّه يكتب واجبه على الحائط المهدّم لأنّ الكتابة هنا ليست فرضًا مدرسيًا بل تأكيدٌ على أنّ الوعي ما زال ممكنًا. لذلك، فإنّ الاستثمار في الطالب في هذه السياقات ليس واجبًا تربويًا فحسب، بل التزامٌ وطنيٌّ وأخلاقيٌّ ببقاء الوعي الفلسطيني نفسه.

وهكذا، يعلّمنا المتعلم في القسر أنّ المعرفة ليست فقط طريقًا إلى المستقبل، بل وسيلة لحماية الذاكرة من التلاشي. فحين يتعلّم الفلسطيني وسط الركام، فإنّه لا يبحث عن فرصةٍ للنجاة، بل عن حقّه في أن يكون إنسانًا كاملًا في عالمٍ يحاول انتزاع إنسانيته.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...