رعب في إسرائيل من انهيار وشيك
الكاتب: د. محمد عودة
منذ سنوات، والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية تتعامل مع احتمال وقوع انهيار مفاجئ أو فقدان السيطرة في ميدان العمليات كأحد أخطر السيناريوهات التي قد تواجهها الدولة. هذا القلق لم يكن مجرد فرضية عابرة، بل كان حاضرًا بشكل واضح في تصريحات القادة الإسرائيليين، مثل إيهود باراك الذي شدد على ضرورة تجهيز الجيش بقدرة على اتخاذ القرار بشكل مستقل إذا تعطلت مراكز القيادة، وإيهود أولمرت الذي أشار إلى أن إسرائيل تواجه تهديدًا مزدوجًا: تهديد خارجي من جبهات متعددة، وتهديد داخلي يتمثل في انهيار جزئي للقدرة على السيطرة العسكرية والسياسية في أوقات الأزمات. هذا التوجه يعكس إدراك القيادة منذ عقود بأن مواجهة الأزمات في بيئة غير مستقرة لا يمكن أن تعتمد على القيادة المركزية وحدها، وأن وحدات ميدانية مدربة ومستقلة قادرة على العمل بحرية تامة أصبحت ضرورة استراتيجية.
اليوم، ما كشفته إذاعة جيش الاحتلال يؤكد أن هذه المخاوف لم تعد مجرد افتراضات نظرية، بل تحولت إلى إجراءات عملية على الأرض. الإذاعة ذكرت أن الجيش أعدَّ "بنك أهداف واسع" داخل التجمعات السكنية الفلسطينية في الضفة الغربية والمناطق الأردنية المقابلة للحدود. هذا البنك لم يُعد كمجرد خطة دفاعية أو قائمة أهداف عادية، بل جاء استجابة مباشرة لاحتمال انهيار منظومة القيادة والسيطرة، بحيث يمكن تنفيذ ضربات جوية سريعة ومنسقة حتى إذا فقد الاتصال أو تعطلت مراكز القيادة الميدانية. هذه المعلومات تكشف عن مستوى الجدية التي تتعامل بها القيادة مع احتمال انهيار السيطرة على الميدان، وتوضح أن الجيش لم يعد يخطط لمواجهة عسكرية تقليدية فحسب، بل يتهيأ للتعامل مع سيناريوهات قد تصل إلى قلب التجمعات المدنية.
في هذا السياق، أجرى الجيش مناورات واسعة تحت اسم "زئير الأسد"، بمشاركة فرقة الضفة الغربية وفرقة "غلعاد 96"، واشتملت هذه المناورات على سيناريوهات متعددة شملت هجمات متزامنة على مواقع تمركز، تسلل مقاومين إلى مستوطنات متعددة في وقت واحد، قتال داخل الأحياء السكنية، وإنقاذ محاصَرين في الميدان. الهدف من هذه التمرينات لم يكن مجرد تدريب تقني، بل تطوير قدرة الوحدات على اتخاذ القرار والعمل بحرية وفعالية في حال فقد الاتصال بالقيادة المركزية، وهو ما يعكس إدراك الجيش أن الأوضاع الميدانية قد تصبح معقدة جدًا ومشحونة بالمخاطر.
المخاطر هنا ليست نظرية فقط، بل مباشرة وملموسة، إذ أن تجهيز وحدات مستقلة للعمل في مناطق مأهولة بالسكان يضع المدنيين في قلب هذه التحضيرات العسكرية، ويحول الأحياء السكنية إلى مناطق محتملة لعمليات قتالية أو ضربات جوية سريعة. هذا الواقع يكشف عن تحول إدارة الصراع من إدارة عسكرية تقليدية إلى إدارة فوضى محتملة، حيث تتقاطع المخاطر العسكرية مع المخاطر الإنسانية والسياسية، ويصبح المدنيون في مواجهة مباشرة مع تبعات هذه الاستعدادات.
المخاوف التي تبناها القادة الإسرائيليون مثل باراك وأولمرت تتحقق تدريجيًا على أرض الواقع، إذ تظهر هذه التحضيرات أن القيادة لم تعد تثق فقط بالأنظمة المركزية، بل ترى ضرورة تجهيز وحدات ميدانية قادرة على العمل بشكل مستقل واتخاذ قرارات عاجلة، وهو ما يعكس مدى الخوف من فقدان السيطرة الكامل على العمليات، سواء في الضفة الغربية أو المناطق الأردنية المقابلة للحدود، حيث يمكن لأي انهيار في القيادة أن يخلق فجوة استراتيجية خطيرة. إعداد بنوك الأهداف وتنفيذ مناورات واسعة يشير إلى أن الجيش يتهيأ لإدارة سيناريوهات متعددة الجبهات والفوضى المحتملة، ويحاول الحد من أي تأثير محتمل على مستويين: العسكري والسياسي، مع الاعتراف أن المدنيين سيكونون في قلب أي مواجهة محتملة.
إن جمع كل هذه المؤشرات مع تصريحات القادة السابقين يظهر بوضوح أن مخاوف القيادة الإسرائيلية من انهيار منظومة القيادة والسيطرة ليست مجرد كلام نظري، بل واقع تتعامل معه الدولة على أعلى المستويات. الإجراءات الحالية تظهر أن إسرائيل تعمل على إدارة احتمالات فقدان السيطرة بطرق عملية، من خلال تجهيز وحدات مستقلة قادرة على اتخاذ القرار بسرعة وتنفيذ ضربات دقيقة داخل مناطق مأهولة، مع محاولة احتواء الفوضى ضمن أطر عسكرية مدروسة. هذا التوجه يجعل المخاطر الإنسانية والسياسية أمرًا لا يمكن تجاهله، ويستدعي متابعة دولية دقيقة لضمان حماية المدنيين والالتزام بالقانون الدولي الإنساني، كما يبرز ضرورة التحرك الحقوقي والسياسي لمواجهة أي تداعيات محتملة لإدارة الصراع في بيئة حضرية مزدحمة وغير مستقرة.
الواضح أن إسرائيل تعي أن مواجهة الأزمات لا يمكن أن تكون مجرد خطط على الورق، وأن التعامل مع فقدان السيطرة، حتى لو كان جزئيًا، يتطلب تجهيزات مسبقة ومرونة عالية في اتخاذ القرار على الأرض. الجمع بين المعلومات الرسمية من إذاعة الجيش، المناورات العملية، وتصريحات القادة السابقين، يعطي صورة شاملة عن الواقع الاستراتيجي الحالي، ويضع المخاطر الأمنية والسياسية والإنسانية أمام أعين الجميع، ويؤكد أن الدولة تتصرف على أساس سيناريوهات فوضوية محتملة يجب مواجهتها بوضوح وحذر.

