الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 5:12 AM
الظهر 11:42 AM
العصر 2:27 PM
المغرب 4:52 PM
العشاء 6:12 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

حين تُقاوَم الحقيقة وتُستَقبل الإشاعة… قراءة في وعي ٍ مُغيَّب

الكاتب: العميد لؤي إرزيقات الناطق الاعلامي باسم الشرطة

في مشهدٍ يزداد التباساً يوماً بعد يوم، بات من اللافت أن المزاج العام في كثير من المجتمعات لا يميل إلى تقبّل الحقيقة، ولا سيما حين تصدر عن جهةٍ رسمية، بقدر ما ينفتح بلا مقاومة على الإشاعة، مهما بدت هشّة أو بلا سند. مفارقة موجعة تكشف خللاً عميقاً في الوعي الجمعي، وتطرح سؤالاً خطيراً: لماذا أصبحت الحقيقة عبئاً، فيما صارت الإشاعة أكثر انتشاراً؟

إن هذا التحوّل لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج عملٍ تراكمي قادته أدوات الإعلام الجديد ومنصّات التواصل الاجتماعي، التي حوّلت المتلقي من باحثٍ عن المعلومة إلى مستهلكٍ للانفعال. فالشبكات الاجتماعية الخاصة بوسائل التواصل لا تكافئ الدقة، بل تكافئ الإثارة، ولا ترفع منسوب الوعي، بل ترفع منسوب التفاعل. وهنا، وجدت الإشاعة بيئةً مثالية للنمو والانتشار، بينما بدت الحقيقة بما تحمله من تعقيد وهدوء وتأنٍّ أقل جاذبية وأضعف حظاً في التداول.

ولم تقف المسؤولية عند حدود الفضاء الرقمي وحده، إذ ساهمت بعض وسائل الإعلام عن قصدٍ أو عن عجز في تعميق هذا الخلل، حين اختارت الإثارة طريقاً سريعاً للانتشار، وقدّمت العناوين الصادمة على حساب الحقيقة، والتحليل المتوازن. فحين تُختَزل الوقائع، وتُضخَّم التفاصيل، ويُستَبدل التحقق بالسبق، تصبح الإشاعة شريكاً شرعياً في صناعة الخبر، لا طارئاً عليه.

ويظل الجهل عاملاً حاسماً في هذه المعادلة المختلّة؛ جهلٌ بمعايير التحقق، وبمصادر المعلومة، وبالفرق بين الرأي والخبر، وبين التحليل والتضليل. هذا الجهل يفتح الباب واسعاً أمام خطابٍ جديد ظهر على صفحات التواصل، يقوده أشخاص صنعوا لأنفسهم هالات زائفة، وقدّموا آراءهم بوصفها حقائق، ومواقفهم بوصفها وحياً لا يُخطئ. ومع كثرة التكرار، وارتفاع عدد المتابعين، تحوّلوا في نظر البعض إلى "مراجع"، لا تُناقَش ولا تُساءَل.

وفي السياق ذاته، برزت صفحات تشكيكية اتخذت من نزع الثقة هدفاً معلناً أو مستتراً؛ تشكّك في كل رواية رسمية، وتزرع الشك لا بوصفه أداة نقدٍ صحيّة، بل كحالة دائمة من الارتياب. فالغاية هنا ليست الوصول إلى الحقيقة، بل تقويضها، وخلخلة الثقة بين المواطن والمؤسسة، وإحلال الفوضى المعرفية مكان الفهم. وحين تسقط الثقة، تصبح الإشاعة سيّدة الموقف، ويغدو العقل الجمعي ساحة مفتوحة للتلاعب.

أمام هذا الواقع، لا بد من الانتقال من التشخيص إلى الفعل، ومن الشكوى إلى بناء الوعي. فزيادة الوعي الجمعي تمثّل خط الدفاع الأول في مواجهة الإشاعة، ويبدأ ذلك من ترسيخ ثقافة السؤال والتحقق، وتعليم الأفراد منذ المراحل الأولى كيفية التمييز بين الخبر الموثوق والمعلومة المضلِّلة، وبين التحليل الرصين والادعاء العاطفي. إن الوعي لا يُفرَض، بل يُبنى، ولا يُكتسَب صدفة، بل عبر جهدٍ تربوي وإعلامي منظم ومستمر.

وفي المقابل، تقع على عاتق الروايات الرسمية مسؤولية مضاعفة، تتمثّل في تكثيف حضورها، ودعم خطابها بالأرقام الدقيقة، والوقائع الموثّقة، والبيانات الواضحة التي لا تترك فراغاً تتسلل منه الإشاعة. فالصمت الرسمي، أو الخطاب المبهم، يفتح المجال للتأويل والتضليل، بينما الشفافية، وسرعة التوضيح، وتقديم المعلومة بلغة مفهومة وقابلة للتحقق، تُعيد للحقيقة هيبتها، وتُضعف سطوة الإشاعة مهما ارتفع صوتها.

ولا يقلّ الرد القانوني أهمية عن الرد الإعلامي والتوعوي؛ إذ إن مواجهة الإشاعات لا تكتمل دون تفعيل أدوات القانون الفلسطيني، الذي يجرّم نشر الأخبار الكاذبة، وبث الإشاعات التي تمسّ السلم الأهلي، أو تزعزع الأمن، أو تُسيء للمصلحة العامة. فتجريم مطلقي الإشاعات، ومحاسبتهم وفق القانون، ليس تقييداً للحريات، بل حماية للمجتمع من الفوضى، وصونٌ لحق الناس في معرفة الحقيقة دون تلاعب أو تضليل.

إن مقاومة الحقيقة وتقبّل الإشاعة ليستا سلوكاً بريئاً، بل خطراً حقيقياً على استقرار المجتمعات، وقدرتها على اتخاذ قرارات واعية. فالحقيقة مهما كانت قاسية تُنقذ، بينما الإشاعة مهما بدت مريحة تُضلل. والوعي الحقيقي لا يبدأ برفض الرواية الرسمية لمجرّد أنها رسمية، ولا بتصديق كل ما يُنشر لأن صاحبه "مشهور"، بل يبدأ بالسؤال، والتحقق، والمقارنة، والبحث عن المصدر.

إن المعركة اليوم ليست بين رأيين، بل بين وعيٍ وفوضى، بين حقيقةٍ تُبنى بصبر، وإشاعةٍ تُصنَع على عجل. ومن هنا، تصبح مسؤولية الفرد والمؤسسة معاً محورية: أن يُعاد للعقل اعتباره، وللقانون دوره، وللحقيقة حقها في أن تُسمَع، لا أن تُقاوَم. فحين نختار الحقيقة، نختار النجاة، وحين نُسلِّم للإشاعة، نُسلِّم وعينا لغيرنا… وذلك أخطر أشكال الهزيمة.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...