هل يخونني قلبي؟
الكاتب: إياد عماشة
رايه نيوز: يقول الكاتب باولو كويلو في روايته الخيميائي: 'في لحظة معينة من وجودنا نفقد السيطرة على حياتنا، لأنها سوف تكون من تلك اللحظة محكومة بالقدر'.
ففي بداية أحد اجتماعات صياغة مفهوم العصر الحديث ومع بداية القرن العشرين تخّلّفنا نحن العرب عن الحضور، وعندما سَألَنا أحدهم عن سبب تخلفنا، قلنا له: 'والله يا أخي قدرنا أن تحكمنا الاستعمارات المتلاحقة وتفتك بنا- شو دخلنا نحنا هيك قدرنا'.
ثم استعدنا نشاطنا ورمينا التخلف ومضينا، وبدأنا مسيرةً جديدةً وفيها احتفلنا بالعديد من أعياد الاستقلال من الشام لبغدان إلى مصر فتطوان، وفي غمرة فرحنا بأحد الأعياد جاء شخص طويل القامة دعي حينها جمال عبد الناصر واقترح علينا أن نؤسس لوحدة عربية تكون سداً منيعاً في وجه الإمبريالية والرأسمالية وتحد من أطماع المستعمرين بنا وبأرضنا، وعندما سُئلنا عن رأينا من قبل أحد جهابذة الإعلام في ذلك الوقت وربما كان من 'BBC' تابعة للاستعمار البريطاني - قلنا: 'إذا قدرنا هيك بقول شو عاد إلنا حكي نحنا'، فرد الزعماء يومها بعد أن شاهدوا هذه المقابلة: 'إذن على بركة الله' وتم الاتفاق. ولم تمض عدة سنوات حتى اختل قدرنا فحمل المشير عبد الحكيم عامر ما خف وزنه وغلا ثمنه وأخذ تكسي طلب يومها إلى المطار وطار بأول طيارة مغادرة إلى القاهرة، وعندما دخل أحد الصحافيين الأجانب في وسط تجمعٍ للمحتفلين بالانفصال وســــأل المبتهجــين عن سبب الانفصال بعد أن كانت الشـــحرورة الصبوحة تصول وتجول بأغنية الوحدة الشهيرة 'من الموسكي لسوق الحميدية'، جاء الجواب الشافي الكافي بلغة حديثة وجميلة (فقد كنا يـــــومها قد دخلــــنا عصر ما بعــــد الحـــــداثة: (This is KADAR ya habebe heek alla want)
فظن الصحافي أنها حكمة من حكم الأعراب الأقدمين فقد كان الغرب يومها أبعد ما يكون عن الحداثة، وتناولتها وسائل الإعلام الغربية يومها على أنها اكتشاف مذهل، وأثيرت في البرامج الحوارية في الغرب، فلم يتخاذل 'لاري كينغ' أو 'أوبرا وينفري' في الحديث عن هذه الكلمة حتى أنهم استعانوا بالإعلامية الشهيرة 'عزة الشرع' التي استعانت بدورها 'بأم عمار'، وكثر الحديث والتدقيق بكلمة القدر فلم يجدوا لها أي أثر في كل المعاجم العالمية وبكل اللغات (يذكر أنه لم يكن هناك google.com للبحث يومها)، ويقال أن بيتهوفن نفسه تنبأ بهذه البدعة العربية التي اسمها القدر وألف سيمفونية من سيمفونياته التسعة الشهيرة وأسماها القدر تيمناً بهذا الاكتشاف.
بعد ذلك تابعنا احتفالاتنا بالأعياد المتلاحقة وكُتب العديد من المعلقات الشعرية والقصائد الهجائية والأغاني العاطفية حتى ملّت 'أم كلثوم' منها وصدحت بأغنيتها الطنانة الرنانة 'أصبح عندي الآن بندقية' وطبعا هناك العديد من المحللين الاستراتيجيين الذين يقولون وبالدليل القاطع أن القدر وحده جعل أم كلثوم تغني هذه الأغنية وهو نفسه القدر الذي جعل نزار قباني يكتب كلماتها.. والله عظيمٌ هذا القدر. المهم أنه وفي ذلك الوقت صدّق العرب أنهم أصبحوا من حملة البنادق فشنوا هجومهم الكاسح الماسح ليرموا بالإسرائيليين في البحر، وقد أصرّ العديد من الجنود البواسل على عدم التسلح ببندقية أم كلثوم بل تسلحوا بالقدر يا حبيب.. وكان القدر خائناً كالعادة ومتواطئٌ مع الإمبريالية والصهيونية في ضرب حركات التحرر العربية، وبعد أن غنمت الجيوش المعادية أسلحتنا من القدر احتلت العديد من الأراضي المقدر لنا أن نعيش بها..
إذاً قدرنا هو أننا محكومون دائما بالقدر وبحساب رياضيٍ بسيط من المعادلة السابقة حسب صديقنا 'باولو كويلو' نجد أننا وبكل بساطة فقدنا السيطرةَ على حياتنا، وبعد أخذٍ ورد قرر القمر بمده وجْزره أن يتحكم بأرواحنا، فأحياناً ترانا ننزلق بالجزر إلى أعماق المحيط، وما تبقى من أحيان يقذفنا المد لنرتطم بأول صخرة كنا قد زرعناها يوماً وجهزناها لتكون الصخرة التي تتحطم عليها مخططات المستعمرين من الرجعيين والغزاة فتتحطم رؤوسنا بها فنصرخ من الألم المكبوت بداخلنا وبعدها نقرر أن نحبس دموعنا لأننا 'زلم، والزلمي مابـيـبكـيش'.
والآن.. مرت السنوات الأربعون، أربعون عجافاً.. رفضنا حتى أن نقيم حفلاً تأبينياً بمناسبة الأربعين تلك، وبالرغم من آلامنا أصبح الأمر عادياً واعتدنا على كتم مشاعرنا وعلى دحض آرائنا وعلى حرق عواطفنا ولم نستغرب يوماً حربنا الأهلية التي نشعلها في دواخلنا لنجتث منها ما يقول عنه أحدهم أنه باطلٌ وبعدها نقنع أنفسنا فنقول: 'وهل يفتى ومالكٌ بالمدينة؟'، حسناً فلنترك الفتوة لمالكٍ اذن ولنلتفت لشؤوننا.
وبعد؟ ماذا بقي لنا؟ لم يبقَ لنـا سوى الحلم.. حلم العودة بعد الرحيل وطول الغياب.. دمشق حُـلمنا وأملُنا.. حبنا الذي نبحث فيه عن روحنا، نبحث فيه عن رصيفٍ نرمي عليه حمولة الأيام. هي أرواحنا العابثة التي تقض مضاجعنا.. تناجينا لنتوقف حتى ولو بمقدار الحلم على رصيفٍ نستريح به من عناء السفر..
نحن ابناء الجولان السوري المحتل نتذكر 5 حزيران (يونيو).. هو جرحنا النازف.. نقف على بعد خطوات من دمشقنا التي نشتاق.. طال بعدك يا شام وقتلنا الحنين لرسم وجوهنا على هوية ما.. عربية التكوين.. سورية اللون.
وماذا بعد؟
بعد هذا الذي حدث، لن أحتكم للقدر مجدداً، سأحتكم لقلبي.. قلبي الذي يقول لي أني عائد إلى دمشق.. قلبي الذي علّمني أن الخوف من الألم أصعب من الألم ذاتـه.. إنه نفسه قلبي الذي تعود أن لا يخونني يوماً.. فالتحرير بات على مقربة من قلبي الأرجواني، آت لا محالة!.