يطفئون نور غزة بأيديهم !..
الكاتب: عبد الحليم أبو حجَّاج
رايه نيوز: أذن الله لي أن أكتب هذه المقالة , و أنا أرقد على سرير المرض في مستشفى الأقصى المتواضع جدا كأخواتها من المستشفيات الأخرى في قطاع غزة ، و لا أُخفي على القارئ أني أعاني مما هو أشد و جعًا و أقصى ألماً من المرض العضوي . نعم ! إني أعاني من ضيق نفسي و شعور بالغربة , و يأخذني الحزن و الأسى إلى غياهب القلق في رحلة مع الارتياب .
ولست أدري -عزيزي القارئ- كيف أنقل معاناتي الوجدانية إلى وجدانك ! و لا أدري كيف أطرق قلبك ليدخل فيه ما تيسر من عذابات الأيام و السنين التي أكتوي بنارها . و لا أدري كيف أشيع في نفسك بعض ما يشيع في نفسي من همٍّ و غمٍّ لا أرجو من بعده فرجا .
فالحياة التي نحياها - نحن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة- حياة مضنية , يكتنفها إثم كبير لا يُعلن عنه إلا على كرسي الاعتراف أمام كهنوت الكنيسة أو مشيخة المسجد , أو تحت أقدام بوذا العظيم . نعم ! فجميعنا يستوي على درجات الإثم و العدوان , فكلنا آثمون بحق هذا الوطن- فلسطين- و بحق أهلينا وأنفسنا . و أن المسئولين , أولى الأمر فينا آثمون بحق شعبهم و أن الحكومتين الضرتين آثمتان إلى أبعد حدود الإثم , و معتديتان على حقوق إنسانيتنا و مواطنتنا إلى أبعد مدى . فرام الله غارقة في الإثم , و غزة موحلة فيه .... و المسلم الرباني آثم و العلماني آثم و الشيوعي آثم .... و باختصار كلنا قد نفخنا على شمعة الوطن و أطفـأنا ضوءها بأيـدينا و أفـواهـنا ، و إن كنت -عزيزي القارئ- في شك مما أقول فأتني بشخص مسئول أو بحزب ثوري أو بحركة وطنية أو لا وطنية تقدمت خطوة إيجابية , و قدمت حلا عمليا , و حققت شيئا واقعيا يجعل هذا الوطن يتعافى من انقسامه و انسكاب كرامته على كل أرض معمورة بالأنام و الأنعام .
فماذا بقي لنا في هذا الوطن؟ و تحديدا في قطاع غزة الذي يغرق في بحر الظلمات ليل نهار , و يغرق في أوحال البطالة و العنف السياسي و العزلة المميتة , و الباستيل الكبير الذي يعج بمليون و نصف المليون سجين الذين يضجون من سلوكيات السجانين و عنف العيش في أقبيته و مساربه فوق الأرض و تحت الأرض بلا ماء ولا كهرباء .
أَوَ بعد هذا نلوم شبابنا المتحفز للهرب من هذا الوطن الذي لا شئ فيه يغري على البقاء فيه ؟!. أنلوم شبابنا حين يفزع من هذا الجو القاتم و هذا الرعب و هذه العتمة البغيضة التي لا تفضها شمس الضحى - إلى النور و الحرية و الطمأنينة ؟. أنلوم شبابنا حين يهرع إلى الحلم الجميل بالتحرر من هذه القيود و الاستشفاء من هذه الأمراض النفسية و الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و القبلية الحزبية المقيتة التي لا خروج منها .
إن شبابنا -وكذلك جميع الفئات العمرية في قطاع غزة- ساخط كل السخط , و حاقد كل الحقد على الفريقين معا . و إن كنت يا عزيزي القارئ في ريب مما أقول فاستفتهم لتسمع منهم قول نفوسهم و قلوبهم ووجدانهم المبعثر.
أيها الحكام , أيها الرؤساء في الحكومتين الضُّرَّتيْن : ليس ذنبنا و لا ذنب شبابنا و أهلنا أن ألهاكم عنا و عنهم مناصبكم و مراتبكم و رواتبكم و تجاراتكم , و ما تكسبون من مال حرام . فلقد ارتفعت إلينا الأنباء أن حكامنا و أولي الأمر فينا لا يريدون الاتفاق و لا يرغبون في الوفاق , و لا يحبذون التصالح . و مالهم لا يريدون ؟! أليسوا في دويلاتهم سلاطين و رؤساء و أمراء و حكام ومستشارين؟. و مالهم لا يرضون ؟! أليسوا في وزاراتهم و إداراتهم يعمهون؟ و ما لهم لا يرغبون ؟! أليسوا في قصورهم يعيشون في رفاهية و رغد , يسرفون على أنفسهم من البذخ الأمريكي والأوروبي والإسرائيلي ، لا ينقصهم ماء و لا دواء , و لا غاز ولا كهرباء ؟! ومالهم لايحبذون المصالحة ؟! أليسوا في حرية من التنقل و السفر الدائم , فلا تنغلق أمامهم معابر القطاع و لا جسور الضفة ولا المطارات ، فيسافرون مُحَلِّقِين في الأجواء , سائحين في بلاد الله الواسعة , وإنهم ليُسَخِّرون نفوذهم الرسمي لتسهيل السفر لأقربائهم وأنسبائهم ومعارفهم بعمل التنسيق الأمني لهم مع الدول المجاورة بما فيها إسرائيل ، ونحن نقبع خلف الأبواب و قد ضاق علينا المكان , و ضاق بنا الزمان .... و مالهم لا يُخْلِصُون النية في تحقيق المصالحة , إذ ليس لأحدهم ولد عاطل عن العمل , يتسكع في الشوارع أو شاب يجلس خلف بسطة صغيرة لبيع سم الفئران و الصراصير... فأولادهم ما إن ينتهون من دراسة الثانوية حتى يجدوا لهم وظيفة على درجة مدير . لهذا نجد قضية المصالحة قد أخذت منحى المجادلة العقيمة , و اتسمت بالكذب و البهتان و الضلال المبين . فيسعى الساعون غير مخلصين بين الطرفين اللذيْن يفتقدان النية الصادقة . و تبدأ تسريبات الإعلام من هنا و هناك عن شيء من التقارب في وجهات النظر , ثم لا نلبث أن نسمع عن التباعد , فيبدأ التراشق بالكلمات ، وتترى الاتهامات بالخيانة و العمالة , و تتوالى التوصيفات بعدم شرعية الطرف الآخر , و الشعب يضع رأسه بين يديه و ينظر إلى السماء و هو تحت عباءة الظلام الدامس و الظلم الدامي و يدعو : يا رب خلصنا من الطرفين !. فإن داءنا في أحزابنا وفي هذه الزعامات التي تتوارث التسلط علينا . لقد كرهناها جمبعا سواء أكانت في رام الله أم في غـزة ، فخلصنا منها يا رب !....
إنَّ الحياة الضنكة التي نعيشها في قطاع غزة جعلت القوافل البرية تقطع الفيافي والقـفـار لتصل إلى معبر رفح , و شجعت بعض السفن البحرية على أن تمخر عباب البحار فترسو على شاطئ غزة ، تحمل إلينا الزائرين و شيئا من الطعام و الشراب وقليلا من الأدوية و كثيرا من الشيكولاتة و البسكويت . و كأن قضيتنا قد تحولت إلى طعام و شراب ، و أن شعبنا أصبح جائعا يرتزق . و تحوَّل قطاع غزة إلى حديقة حيوانات شرسة يأتي إليها الزائرون للفرجة و التقاط التصاوير الفوتوغرافية و الكلامية لرسم عذابات هذا الشعب تحت الخيمة السوداء... و لا أحد يفعل لنا شيئا . و ما شعار كسر الحصار إلا أكذوبة أو تأشيرة دخول ... فمن يرحمنا من أكاذيب أنفسنا التي بتنا نصدقها و نروجها لنرغم الناس على تصديقها ، و نحن نعلم أننا نكذب كثيرًا .
إن نفوس الناس أخذت تتجافى عن الوطن ! و أن كثيرا من سكانه يتمنى أن تأنيه لحظة الانعتاق بأن يفر بجناحه إلى أرض الغربة إلى استراليا أو كندا أو الدول الاسكندنافية....إلخ..... ألا ترون يا حكامنا في رام الله و في غزة ما الذي أزعج الناس عن وطنهم و جعلهم يهجرونه ؟. ألا تحسون ما الذي نفرَّ الناس منكم ؟ . ألم يأتِكم حديث الناس أن الراغبين في هجر الأوطان قد زاد عددا و نوعا بحيث أضيف إلى الشباب الذكور الشابات الإناث و كذلك الرجال و النساء ومن هم في سن الكهولة. و ستسمعون غدا أن الراغبين في السفر وترك الأوطان مهاجرين قد شمل جميع الفئات العمرية من الأطفال حتى سن الشيخوخة . لماذا ؟ أمازلتم تتساءلون ولا تنظرون؟ أما زلتم لا تسمعون و لا ترون و لا تعقلون ؟ إنها إذن الطامة الكبرى ، وما أدراك ما الطامة الكبرى ! إنها الضياع و التفريط في الوطن وبيع فلسطين وأهلها في المزاد العلني . فمتى يا قوم تفقهون : أنَّ " غزة من غير ناس ما بتنداس". ومتى ياقوم تعقلون أنَّ إمارتين بحكومتين وبرلمانين وشعبين (شعب غزة وشعب الضفة ) يجلب علينا المساخر ويستمطر علينا الخزي والعار، ونلقي بأنفسنا إلى مهاوي الـرَّدَى ووادي النسيان ، وهل أمستْ فلسطين دولتين : ( دولة فلس ، ودولة طين ) ؟ . أفلا تستَحيُون ؟! . نعم ، إنهم " يُخْرِبُون بيوتهم بأيديهم... " صدق الله العظيم ...*