بين العتمة والعزلة الرقمية
ثمن الشحن.. حين يصبح الهاتف عبئًا في غزة
خاص راية - أماني شحادة - غزة
تحوّل شحن الهاتف المحمول في قطاع غزة من أمرٍ يومي بسيط إلى عبء ثقيل، في ظل أزمة الكهرباء المستمرة منذ أكثر من عامين وغياب الحلول الدائمة، لتصبح تكلفة الشحن مصدر قلق جديد للعائلات المنهكة أصلًا من الحصار والنزوح، وتُضاف إلى سلسلة طويلة من أوجه المعاناة التي يعيشها الغزيون في غياب أبسط مقومات الحياة.
منذ حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، يعيش سكان القطاع في ظلام شبه دائم بعد تدمير البنية التحتية للطاقة بشكل كامل.
ومع انقطاع الكهرباء المستمر، لم يجد الناس خيارًا سوى اللجوء إلى محطات الشحن أو المولدات الخاصة مقابل مبالغ مالية مرهقة، في وقت أصبحت فيه الهواتف وسيلة أساسية للتواصل والتعليم والعمل.
اليوم، بات الشحن رفاهية يومية لا يقدر عليها كثيرون، إذ يجد المواطن نفسه بين خيارين قاسيين: دفع ثمن الشحن أو البقاء في عزلة تامة.
فاتورة جديدة تثقل كاهل الأسر
في أحياء غزة المدمّرة، تتحوّل نقاط الشحن الصغيرة إلى محطات انتظار للأمل. تعمل بعض هذه النقاط بالطاقة الشمسية، ويصطف الأهالي في طوابير طويلة يحملون هواتفهم كأنها شريان حياة، يسلّمونها لأشخاص غرباء على أمل أن تعود مشحونة، لكنها أحيانًا لا تعود.
ألواح الطاقة الشمسية التي تُعد الآن مصدر الحياة الوحيد أصبحت رفاهية لا يملكها إلا القلة، في مدينة تُنفق فيها الأرواح والمال لأجل القليل من الضوء.
تبلغ تكلفة شحن الهاتف للفرد الواحد بين 50 إلى 100 شيكل شهريًا، بمعدل 2 إلى 5 شواقل للشحنة الواحدة، وهي تكلفة باهظة بالنسبة لعائلات فقدت مصادر دخلها كليًا بسبب الحرب، وسط ارتفاع معدلات الفقر والبطالة إلى مستويات غير مسبوقة.
وتزداد المعاناة لدى العائلات التي تضم طلبة، خصوصًا في ظل اعتماد التعليم على الوسائل الإلكترونية بعد تدمير آلاف المدارس والجامعات.
تقول رؤى ثائر، طالبة توجيهي نازحة في مخيم النصيرات لـ راية: "كنت أبكي كثيرًا لأن الامتحان ينتهي دون أن أتمكن من تقديمه بسبب نفاد بطارية الهاتف... اللابتوب لا يعمل إلا بالكهرباء، وهي غير متوفرة بالنسبة لي".
ومع غلاء أسعار الأجهزة الإلكترونية، يجد كثير من النازحين أنفسهم عاجزين عن استبدال الهواتف التي تعطلت بسبب الشحن المتكرر من مصادر غير آمنة. وهكذا، لا يعني فقدان الهاتف مجرد انقطاع عن التواصل، بل حرمان من التعليم والمعلومات وحتى الأمان.
بات شحن الهاتف بندًا أساسيًا في قائمة مصاريف الأسرة، تمامًا كالماء والخبز، في مشهد يلخص عمق الأزمة التي يعيشها سكان غزة يوميًا تحت الحصار.
سرقة الهواتف.. معاناة من نوع آخر
مع تزايد الاعتماد على نقاط الشحن العامة، برزت ظاهرة سرقة الهواتف المحمولة، خاصة في مراكز الإيواء والأماكن العامة التي تحتوي على مصادر كهرباء. يضطر كثير من الأهالي إلى ترك هواتفهم في محال الشحن أو لدى أشخاص لا يعرفونهم، فيخسرون أحيانًا وسيلتهم الوحيدة للتواصل مع أحبائهم.
يروي المواطن أبو مصعب شراب من جنوب القطاع لـ راية: "رغم قسوة النزوح وصعوبة الحياة، وضعت هاتفي في أقرب نقطة شحن، وبعثت ابنتي الصغيرة، عمرها 9 سنوات، لتجلبه. في طريق عودتها، أوقفها أحد الأشخاص وأوهمها بوجود كابونة مخصصة لي، وطلب الهاتف لتأكيد الرقم... ثم سرقه وفرّ هاربًا".
وفي مشهد آخر، فقد ثروت الدريملي هاتفه بعد وضعه للشحن في إحدى النقاط العامة التي تعمل بالطاقة الشمسية. يقول: "أعطوني بطاقة صغيرة تثبت ملكيتي للهاتف، لكنني فقدتها أثناء تجوالي. وعند عودتي، رفض المسؤول عن النقطة تسليم الجهاز دون البطاقة، ثم اكتشفت أن طفلًا أحضر البطاقة مدّعيًا أن الهاتف له".
ما حدث لأبو مصعب وثروت ليسا حالتين فرديتين، بل صورة من واقع يومي متكرر في غزة. فبينما يحاول الأهالي الحفاظ على وسيلة تواصلهم الوحيدة، يجدون أنفسهم عرضة للاستغلال والسرقة، في ظل فوضى حياتية وانعدام منظومة الحماية.
الهاتف... وسيلة تواصل أم عبء جديد؟
تحوّل الهاتف المحمول من وسيلة اتصال إلى رمز للمعاناة اليومية في قطاع غزة، في ظل الانقطاع الكامل للكهرباء وتراجع الخدمات الأساسية.
ففي وقتٍ أصبح فيه الاتصال بالعالم الخارجي حلمًا بعيدًا، لا يزال الغزيون يتمسكون بما تبقى من وسائل البقاء، حتى وإن كان ثمنها جزءًا من طعامهم أو أمانهم.
إنها مفارقة قاسية تختصر المشهد الإنساني في غزة: حيث يُصبح الضوء سلعة، والشحن رفاهية، والهاتف عبئًا ثقيلًا لا يمكن الاستغناء عنه.

