الرصاص مزّق جسد علاّن وموسى كتب بطاقة فرحه بيده!

رام الله- شبكة راية الإعلامية:
سردت اثنتان من أمهات الشهداء حكاية أولادهن بعد 18 عاماً على رحيلهما. وروت آمنة سعيد أبو عرة قصة ولدها علاًن الذي مزّقت رصاصات الاحتلال جسده، فيما بثت طرب نمر الشاويش وجعها على صغيرها موسى. وقالتا خلال الحلقة الخامسة من برنامج "كواكب لا تغيب" الذي تنظمه وزارة الإعلام والإتحاد العام للمرأة الفلسطينية، إن الألم لن تطويه الأيام، وإن طالت.
وبدت آمنة أبو عرة ( 85 عاماً) بتجاعيد وجهها، والأحزان التي تستقر في قلبها، متماسكة وهي تسترد الحوار الأخير الذي جمعها بولدها، العشريني علاّن، الذي سقط بصلية رصاص جاوزت الحد، وفتت ظهره، قرب قرية الجلمة شمال جنين، في 19 كانون أول 1996.
تقول، وهي تحتضن سترة ولدها الرمادية المثقوبة: هذه استشهد فيها علاّن، والرصاص مزعها تمزيع، وفيها 72 رصاصة، ودمه نشف عليها، وكل يوم أفتح الخزانة وأتفقدها، وأحضنها وأضعها في عيوني. فقد خرج من البيت، وودع أخواته الثلاث( فاطمة، وحمدة، وسميرة)، وذهب للنوم عند أخيه عبد الرحمن في المستشفى بجنبن، وغاب عن البيت ثلاثة أيام. وقال لأخيه المريض: سأذهب مع اثنين من أصحابي للسلام على أحدى الأسرى، لكنه عاد إلينا محمولاً في النعش( وسقطا معه وهما طارق جردات، وعبد الرحمن فراحتي).
شريط وجع
وتعيش في شريط ذكريات الأم وقلبها، الكثير من ذكريات علان محمد أبو عرة: ضحكاته، طيبة قلبه، حرصه على مساعدة الناس وخاصة طلبة الجامعات الفقراء، وعمله في المطعم، ورفضه لبناء بيت، وحرصه على الاستيقاظ في موعد أذان الفجر، وتنازله عن الخطوبة، رغم قراءة الفاتحة. لكنها تقول برباطة جأش: أخبرني بأننا سنفرح به في وقت قريب، واستحلفني بالله أن أزغرد له كثيراً، ولكنه أخفى علينا تفاصيل العروس، وموعده الزفة. غير أن سؤاله الدائم عن شعوري إذا سمعت بخبر استشهاده، جعلني أشك بالأمر. وحينما شاهدته ممداً في الليل داخل الجامع، زغردت له كما وعدته، وتقطع قلبي عليه، فكان جسمه منخل تنخيل بالرصاص.
ووفق ما تتذكره الأم: فقبل أربعين يوم من رحيله، توفيت جدته صبحية، وأنزلها هو إلى القبر، ورأى قبراً ملاصقاً بها، فعاينه، وحسد من سيدفن بجانب جدته، ولم يكن يعلم أنه هو الذي سيوضع في هذا اللحد!
تضيف، وهي تحتضن صورته وبقايا ملابسه: جابوه بنص الليل، وكشفت عن وجهه، وشاهدت يبتسم. وكان ابني طويلاً، ومرحاً، ويضع المنبه كل ليلة فوق رأسه كي لا يفوته الفجر، وليذهب بعدها باكراً إلى المطعم.
وحسب رواية الوالدة، طلب صغيرها من ابن أخيه، أن لا يتأخر عليه في المستشفى، ليذهب إلى زيارة صديقه، وذهب إليه، وبعد وقت قصير، جاءنا خبره. فيما قصت لها إحدى شاهدات العين المنظر المؤلم لتصفيه ابنها واثنين من أصحابه، بدم بارد، ومن مسافة قريبة.
رزقت عائلة أبو عرة، بعد عام واحد بمولود حمل اسم عمه الراحل، وحمل بعضا من صفاته وطيبة قلبه، وحبه لمساعدة الناس. وكرر أخوته( عاطف وعارف وعاصف) استعمال الاسم ذاته، فيما سمى الجيران ثمانية بالاسم نفسه، ليذكروا الأم المكلومة بفقيدها، الذي كان يحلم بدراسة الهندسة، قبل أن تندلع انتفاضة الحجارة، كما تقول.
يسترجع أخوه عبد الرحمن: تصادف في يوم تشييع أخي أول انتخابات للرئاسة و"التشريعي"، وقرر أهل البلد مقاطعتها، ولما علم أبي بالأمر، خرج من المقبرة إلى صناديق الاقتراع، وتمنى من الناس أن يفعلوا مثله، وفعلوا.
القلب لا يتسع لأحزانه!
فيما تتنافس الأحزان على حجز مكان لها في قلب طرب نمر شحادة الشاويش، التي فقدت صغيرها موسى، بانفجار عبوة ناسفة، في 7 تشرين أول 1992، وظلت تستذكر أشلاء جسده التي تناثرت في مناطق بعيدة من عقابا.
تقول: الصغير استشهد، ووأولادي الأربعة يقضون أحكاماً بالسجن المؤبد: خالد 10 مؤبدات، وناصر 5 مؤبدات، ومحمد 11 سنة، وعدنان 8 أشهر. وفي كل يوم أجلس أمام صورهم في صالون المنزل، أعطي لكل واحد منهم حصته من الدموع.
تستذكر: كان موسى محبوباً، ومتفوقاً في المدرسة، وكان الأول في الثالث الإعدادي على الأولاد والبنات، ويحبه الناس، لكنه بعد الانتفاضة ترك المدرسة، وصار يعمل في البناء مع والده، وحمل هم الأسرى منذ سن صغير.
وحسب الأم المسكونة بالقهر، فقد طلب موسى من رفاقه قبل يوم واحد من استشهاده أن يصوموا نهار الخميس تضامناً مع الأسرى المضربين عن الطعام في السجون، فوافقوا كلهم باستناء واحد، ظل يحاول اقناعه، وقرروا أن يمسكوا عن الطعام، غير أنه سقط قبل تنفيذ التضامن مع أسرى الحرية.
تقول: قبل أن يستشهد، كان يمزح معه أصحابه، وقالوا له: سنزوجك. فرفض الفكرة لصغر سنه، ورد عليهم: سأعزمك على عرسي، وكتب بخط يد بطاقة دعوة، قبل يوم واحد من رحيله، لكنه رفض ذكر اسم العروس ووالدها وعائلتها، ووجدنا البطاقات في غرفته.
سمعت الأم صوت انفجار ضخم، وخافت على أولادها، لكن سرعان ما قال لها ابنها محمد، أن موسى هو الشهيد، وبدأت باللطم، وشاهدته يسبح في دمه، ولحمه متطاير ومعلق على الشجر لمسافات طويلة في حي عقابا الغربي.
تقص بحسرة: كان موسى يحب الأرز واللبن والكوسا بالسمّاق، ويحب أن أكررهما له كل يوم جمعة، وأحتفظ بملابسه وبوته، ولو ظل حياً لكان اليوم أبن 40 سنة، وأولاده طوله.
توزع طروب الشاويش قلبها على أولادها، لكنها لا تخفي أنها توقفت عن البكاء علنا عليهم، وصارت تخفي الدموع في قلبها، إلا أن حسرتها الكبرى بعد موسى، على خالد الأسير والمصاب بشلل نصفي، والذي ترفض إدارات السجون أن يجتمع بأخوته ليقدموا له الرعاية في زنزانته!
يقول زوجها: فقدت أم عماد جزءأ من سمعها، وهبطت، وأجرت جراحة لمفاصلها، لكنها تحبس وجعها في قلبها، ولا تنام الليل لغيابهم الدائم والطويل.
وتنهي الأم: حلمت مرة واحدة بموسى، ونقل لي خبر حجي لبيت الله، وهو ما حصل في اليوم التالي، واتمنى أن يعود موسى إلى منامي ليخبرني بالإفراج عن أخوته!
توثيق
بدوره، قال منسق وزارة الإعلام في طوباس، عبد الباسط خلف، إن" كواكب لا تغيب" ستتنقل في طوباس وبلداتها وتجمعاتها، في توثيق بقالب قصصي إنساني، يعيد تضحيات الشهداء إلى الأذهان، بالرغم من الجروح التي يعيد فتحها.
فيما أكدت منسقة الاتحاد العام للمرأة الفلسكينية في طوباس، ليلي سعيد، أن البرنامج يُكرّم على طريقته أمهات الشهداء، وينقل لهن رسالة مفادها أن أولادهن لم يرحلوا من ذاكرة شعبنا، رغم انقضاء السنوات.