جدارية العبور لقرانا المهجرة
الخليل- رايــة:
طه أبو حسين-
وكأن التاريخ بات مجرد صور يجسدها الفنان بريشته وألوانه على لوحات ميتةٍ يزيد نطقها بالموت حالما حملت تاريخ قرية مهجرة، ودم امرأةٍ مستباح، وطفولةٍ مسلوبة، وكرامة عجوز قد انتهكت، وحلم أجيال بالعودة يترنح مع كلّ هبةِ ريحٍ لتقول ها قد اندثر حلم العودة ثم سرعان ما يعود مع أول بارقة حياة.
في الخليل اجتمع قرابة مائة فنان وفنانة لرسم أطول جدارية فن تشكيلي في العالم، "جدارية العودة" التي تضم 68 قرية فلسطينية مهجرة علّهم يتنفسون التاريخ المسلوب قبل أن يتنفسهم الموت.
في عين سارة وتحت مظلة ستاد الحسين الدولي كان مسرح جدارية الفن التشكيلي، والفنانة سونيا اقنيبي جسدت قصة قرية مهجرة وقالت: "رسمت قرية لفتا قضاء القدس، وهي من أجمل القرى، ففي عام 1948 تم تهجير أهلها بالكامل، وتركوا بيوتهم الجميلة، وفيها الطبيعة الخضراء حيث اشتهرت بقرية ينابيع القدس بحكم المياه الوافرة بها.
كانت الألوان تعجّ في المكان، فامتزجت وشكلت لوحة تحاكي حجم الوجع الفلسطيني والأمل الذي يختلج في تلك الصدور والعيون، وتجسد ذلك في لوحة الفنانة سعاد التميمي التي قالت "اخترت لوحة تعبر عن القدس، بيّنت فيها عدة أمور، مشاعر مختلطة، الفخر والاعتزاز والأمل والتفاؤل، إلى جانب الألم الذي نعيشه".
الفنانة زهرة منصور تفنّد فكرة أن الجيل الشاب ناسيا لتاريخه "رسمت قرية عين الزيتون، وتحديدا مسجد القرية، فنحن لسنا جيلا ناسيا لتاريخه، ونعمل على تأريخه للأجيال اللاحقة، فاليهود وضعوا الناس بالمسجد وقصفوه، ولم يبق إلا هو كدليل على هوية القرية".
التاريخ يحتمل التأويل، والفنان الفلسطيني يحاول قدر المستطاع إثبات هويته في ظل الأطماع الإسرائيلية، والفنانة أسيل دوفش تقول "رسمت قرية بيت نتيف قضاء الخليل، وهي قرية مهجرة، ونحن نرسمها حتى نحتفظ بالتاريخ ونعرف الأجيال القادمة بها، فالنكبة وجع كبير لا يمكن أن ينسى".
في حين قال الفنان مازن دوفش "نرسم في ذكرى النكبة ومع مرور 68 عاما عليها رسالة الفنانين التي تؤكد على حق العودة، فالفنان دوره تجسيد طبيعة الظلم الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، وثقافة الفنان من خلال فنه نقل هموم الشعب الفلسطيني من خلال اللوحات الفنية للعالم الغربي والعربي".
أما الفنان نسرين يغمور فأخذت ريشتها ترسم قرى حيفا والساحل الفلسطيني، فقالت :"رسمت قرية الطنطورة قضاء حيفا، فنحن كلما أردنا الوصول للبحر، نقدم للحصول على تصاريح من الاحتلال، والاحتلال يتحكم بمن يسمح له بذلك أو يمنع، وهذه أرضنا ويجب أن نعود إليها".
غير أن الفنانة رفاه سرحان غرقت في تفاصيل النكبة ورسمت طبيعتها وظروفها القاسية في تلك القرى المهجرة عام 1948، وقالت "رسمت طفلة تمسك بحبل الخيمة، وحولها كيف ينشر الغسيل، وكيف كان الوضع خلال التشريد من القرى، فأنا من قرية التينة قضاء الرملة، فالنكبة ألم شعب، ووجعها كبير".
ولما سألنا سرحان عن إن كانت قد رسمت قريتها (التينة) أجابت "أنا لم أرسم قريتي لأنه لا يوجد بها بنايات، جميعها هدمت، فقط بقي الشجر والسهول".
وانتهجت الفنانة شيرين غبن نهج سرحان فقالت "رسمت قرية لفتا، وفكرتي كانت تتمحور بالكوفية "الحطة" التي ترمز لفلسطين، وأيضا المفتاح، إلى جانب الصخر والأرض، فانا كلما ذكرت كلمة نكبة أمامي يعود تفكيري للأراضي والهجرة وجدي وجدتي وأي رجل وامرأة طاعنين في السن".
الحنين يملئ وجدان الفنان بينما يرسم تلك القرى المهجرة، حتى أن بعضهم تدمع عيناه بينما يكون كذلك، والمشاهد لتلك اللوحات وما تجسدها من واقع أليم يفتّش بينها عن نافذة حرية توصله لطريق العودة، غير أن الأسلاك والشباك المرسومة تحجب عنه نور الشمس إلا قليلاً.

