الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 4:10 AM
الظهر 11:44 AM
العصر 3:15 PM
المغرب 6:02 PM
العشاء 7:18 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

عندما تنتهي الرحلة وهي في أوجها

الكاتب: عبد الغني سلامة

بحسب نظرية التطوّر انفصل نوع «الهومو» عن الرئيسيات العليا قبل ملايين السنين، ثم واصل تطوره الفسيولوجي حتى استقل بجنس «سابينس» قبل أكثر من مائتي ألف سنة.
كان هذا الجنس هو الأضعف في مملكة الحيوان؛ فهو بلا قرون، ولا أنياب، ولا مخالب، ودون فراء يقيه موجات الصقيع، ولا سرعة تمكنه من مطاردة فرائسه أو الهروب من مفترسيه، فظلَّ على الدوام معرضاً للانقراض.
أخذ هذا «السابينس» يتميز شيئاً فشيئاً عن سائر المخلوقات، بأشياء أكثر أهمية من القرون والمخالب والأنياب.. انتصب واقفاً، وتكونت له أصابع تمنحه مهارات الصنع والتكوين، وبدأت تنمو فوق دماغه قشرة دماغية جعلته قادراً على التمييز والتفكير، ثم تطورت أحباله الصوتية وصار بوسعه الكلام، وبدأ ينتظم في مجموعات متعاونة، هائمة في البراري تبحث عن طعامها.. لكنه ظل كائناً ضعيفاً وبائساً.
قبل نحو سبعين ألف سنة اجترح أول ثورة معرفية جعلته إنساناً واعياً، قادراً على التحليل والتواصل، وصناعة أشياء بسيطة، وبمسير بطيء وحثيث اجترح ثورته الثانية: الزراعة، التي منحته ميزة الاستقرار، ثم خاض الثورة العلمية قبل خمسة قرون، والتي أنجبت الثورة الصناعية، ثم الثورة التكنولوجية والمعلوماتية التي تألقت في العقود الثلاثة الأخيرة.
تميز هذا الجنس بالعنف والأنانية، وبوهم التفوق، فقد أباد سائر الأجناس الإنسانية التي تطورت معه أو قبله (النياندرتال، وإنسان جاوه وغيرها)، وسيّد نفسه على الطبيعة، فبدلاً من التأقلم معها كسائر المخلوقات، طوعها قسراً لتتكيف مع حاجاته، بل وحتى مع رغباته ونزعاته.
ومنذ بداية وعيه، اعتقد أنه سيد الكائنات، ومحور الكون، وأنَّ جميع الموجودات والكائنات الحية إنما خُلقت لخدمته، بما في ذلك الكواكب والنجوم، لكنّ خيبته وصدمته الأزلية تمثلت بالموت، فهذا الكائن الجبار الخارق يموت بكل بساطة، ثم يتحلل جسده ويصبح سماداً للأعشاب.. فيصير هباء وكأنه لم يكن.  
رفض الإنسان فكرة أنه جزء من دورة الطبيعة، وأنه يموت بكل بساطة، تلك الضربات الموجعة لصميم كبريائه جعلته يبحث عن الخلود.. الخلود يؤكد أنه سيد الأرض والأكوان، وأنه مخلوق مقدس، وجوده ثمين، وحياته ثمينة، فكان لا بد من تمديد هذه الحياة بأي وسيلة.. حاول تحسين شروط معيشته ليعيش فترة أطول، فاخترع وصنع كل ما يسهّل له ذلك، ثم ابتدع فكرة الحياة الآخرة، لتعويض فكرة الفناء.. وقبل الديانات الإبراهيمية خلق لنفسه آلهة شتى، آلهة أسمى من البشر، ولها قدرات خارقة، يتوجب تقديسها.. لكنه ومنذ البداية نصّب نفسه نائباً عن تلك الآلهة، فابتدع الديانات.
في بدايات تلك المسيرة الملحمية، كانت حياة الإنسان قصيرة، وبائسة، كلها أمراض غامضة، ووحوش مفترسة، وتقلبات في الطقس لا ترحم.. فلم يجد رفاهية الوقت للتأمل والتفلسف، فكانت آلهته ودياناته وأنماط تفكيره بسيطة ساذجة، ثم تغيّرت أجنداته مع تطور تفكيره وأساليب معيشته.. في تلك الأزمنة البعيدة كان كل ما يشغل باله ويؤرقه، هزيمة ثالوث الجوع والمرض والمفترسات.. ثم انشغل بحروبه ضد أخيه الإنسان، ومع مزيد من الاستقرار والتطور صارت أولوياته تحقيق ثالوث جديد أضلاعه الصحة والسعادة والخلود.  
تربع الإنسان على قمة الهرم الغذائي، وكان اعتماده بذلك على ذكائه، فالذكاء بالذات ميّـزه عن الحيوانات، بعد أن ثبت علمياً امتلاك الحيوانات مشاعر وأحاسيس وعواطف.. وبعد ظهور ديانات التوحيد وضع أتباع كل ديانة أنفسهم على قمة الهرم الإنساني، وبدأت سلسلة من الحروب الدينية.. ومع تحولاته نحو عصر الإنتاج الوفير والرأسمالية وضعت كل مجموعة اقتصادية نفسها على قمة الهرم، فنشبت سلسلة من الحروب السياسية، ما زال سعيرها مشتعلاً. وفي كل حرب كان من يتولى مهمة  تكييف مبرراتها الأخلاقية.
قبل الأديان، اختلق الإنسان عوالم خيالية وافتراضية لمساعدته في تبرير وجوده وتكريس تفوقه وتمكينه من الوصول إلى الهدف الأبعد: الخلود.. بدأ بالسحر، ثم الحكايات الشعبية والأساطير، ثم الفلسفة والتأويلات المختلفة لشتى الظواهر.. احتاج من أجل ذلك اختراع الأبجدية والكتابة والتوثيق والنظم البيروقراطية.. وفي العصور المتقدمة ابتدع المزيد من العوالم الافتراضية كالنقود، والأيديولوجيات، والزعيم، والدولة، والقانون، والشركات، ومعايير الجمال، والأخلاق.. «الخيال ليس سيئاً، إنه أمر حيوي من دونه استحالت الحياة».
كانت تلبية وإشباع حاجات الإنسان الأساسية ممكنة، مع وجود قياسات معيارية تقيس نسبة الإشباع، لكن إشباع حاجاته النفسية وتحقيق حلمه الأزلي بالخلود ظل متعسراً.. لذلك لم تتوقف رغبته في تحقيق المزيد.. ولم تكن ملحمة جلجامش سوى تعبير بدائي عن تلك الرغبة المحمومة بالخلود.. وكل الفنون والآداب والفلسفة التي تلتها إنما لتحقيق هذا الهدف، وما الاختراعات والصناعات إلا تماهٍ مع الإله في سمة الخلق، مع فارق التطور الزمني؛ فإذا كان للفرعون إمكانية السيطرة على مئات الآلاف ليبنوا له الأهرامات، ولإمبراطور الصين قدرة على تسخير الملايين لبناء سوره وقصوره، فإن لأصحاب الشركات الكبرى اليوم نفس القدرة على توظيف مئات الألوف لبناء إمبراطورياتهم المالية، وتسخير الملايين من البشر لمساعدتهم في بسط هيمنتهم على العالم وتسييره. فكل زعيم وجنرال وفنان ومخترع وأديب إنما كان يريد تخليد اسمه.. وكل علاقاتنا الاجتماعية وعلى رأسها الزواج إنما لتمرير جيناتنا إلى الأجيال القادمة، وحفظ النوع البشري وتخليده، ما يعني أنّ هاجساً خفياً كان يتطور بالتوازي مع هاجس الخلود: الوصول إلى الإنسان الإله.. أراد الإنسان منذ القدم أن يحل محل الإله، فبعد أن كان يوكل إليه مهمة حمايته من كوارث الطبيعة بدأ يحاول السيطرة عليها بنفسه، ثم صار يسخرها لخدمته.
لمعرفة هل سيصل إلى مبتغاه أم لا.. علينا تتبع مسيرته الطويلة.  
كان معدل عمر الإنسان إبان الثورة الزراعية بحدود 18 سنة.. اليوم يبلغ 80 سنة وأكثر.. وإذا توصل للجين المسؤول عن هِرم الخلية سيمدد عمره إلى 150 سنة، وربما 200.
لعصور طويلة ومملة ظل التقدم العلمي بطيئاً؛ لافتقار الإنسان القديم لأدوات المعرفة، وعدم اهتدائه لأهم الاكتشافات.. ومع كل اكتشاف جديد لموارد الطبيعة وقواها الخفية وقوانينها الناظمة كان يبني عليها مزيداً من الاختراعات.. مع بدايات القرن العشرين كان الإنسان قد اهتدى لأغلبية الاكتشافات، وامتلك ما يحتاجه من أدوات معرفة، فحصلت قفزات كبرى في مسيرة العلم، والذي وظفه للهدف ذاته.
قارن بين مخترعات اليوم مع بداياتها خلال القرن الأخير: السيارة كانت تشبه عربات الخيل، الاتصال بالتلغراف، الحاسوب بحجم الغرفة، والكثير من الاختراعات كان حينها مجرد خيال علمي، أو لم يخطر ببال أحد.
في الخمسين سنة الماضية اكتشف إمكانيات مذهلة لتطوير ما كان مكتشفاً: الموجات الكهرومغناطيسية، خارطة الجينوم وهندسة الوراثة، الذكاء الاصطناعي، النانو، وألياف الكربون.. وهو بصدد تسخير أهم ميزة للضوء: امتلاكه خاصتَي الأمواج والجسيمات، ليطور هذا الميزة لصناعة كمبيوتر كمي عملاق، خارق السرعة والذكاء.
كان صاروخ سبوتنيك السوفياتي أول خروج للفضاء الأرضي.. بعد خمسين سنة هبطت أول مركبة على المريخ.. لنتخيل شكل العالم بعد قرن، أو ألف سنة، أو مليون.. مع هذا التطور العلمي الهائل.
تخيل رحلة الإنسان من جماعات هائمة في البراري تأكل من حشائش الأرض.. إلى جماعات بذكاء بشري فائق التطور، يحكمها عقل السرب بحاسوب خارق، وقد خرجت من المجموعة الشمسية، لتتسيّد المجرة.
لكن هذا القطار السريع قد ينقلب عند منعطف ما، لتنتهي هذه الرحلة وهي في أوجها.  
«حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا». (يونس، 24).   
 

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...