الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 4:02 AM
الظهر 12:44 PM
العصر 4:24 PM
المغرب 7:54 PM
العشاء 9:25 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

اقتصاد رهينة: المقاصة بين السيطرة الإسرائيلية وغياب السيادة المالية الفلسطينية

الكاتب: الدكتور سعيد صبري

في ظل انعدام السيطرة الفلسطينية على الحدود والمعابر، تصبح السيادة المالية مجرد وهم، والقرار الاقتصادي مرتهن بإرادة الاحتلال. أحد أبرز تجليات هذا الواقع يتمثل في “نظام المقاصة” الذي تُجبى من خلاله معظم الإيرادات العامة للسلطة الفلسطينية عبر إسرائيل، وهو نظام تحوّل من أداة إدارية مؤقتة ضمن اتفاق باريس الاقتصادي عام 1994، إلى قيد دائم يُستخدم للضغط السياسي والتجويع المالي.

تشكل إيرادات المقاصة ما يقارب 60 إلى 70% من الدخل العام للسلطة الفلسطينية. فعلياً، تعتمد وزارة المالية الفلسطينية بشكل شبه كامل على هذه الإيرادات في تمويل الرواتب والخدمات الأساسية. إلا أن هذه الإيرادات تبقى خاضعة بالكامل لتحكم الجانب الإسرائيلي، من حيث التوقيت والكمية، بل وحتى صلاحية الاقتطاع منها تحت ذرائع مختلفة.

في عام 2024، بلغ إجمالي المقاصة المعلن نحو 9.9 مليار شيكل، بينما توقعت وزارة المالية أن تصل إلى 10.2 مليار شيكل في 2025، وهو ارتفاع طفيف لا يعكس النمو الحقيقي بل يعبر عن تضخم مالي غير مُنتج. لكن الأخطر هو أن إسرائيل اقتطعت ما يقارب 3 مليارات شيكل من هذه الأموال خلال 2024، أي ما يعادل 38% من إجمالي الإيرادات المحولة، مما خلق عجزاً مالياً مباشراً واضطر السلطة إلى تقليص الرواتب والخدمات.

وخلال النصف الأول من عام 2025، استمرت الاقتطاعات بمعدل شهري يتراوح بين 300 إلى 320 مليون شيكل. وفي المجمل، بلغ ما تم حجزه أو اقتطاعه من أموال المقاصة منذ عام 2019 حتى منتصف 2025 نحو 7 مليارات شيكل، بحسب تقارير اقتصادية فلسطينية مستقلة. هذا الواقع لم يترك مجالاً للسلطة سوى إدارة مالية شهرية طارئة، دون أفق تخطيطي أو استقرار في دفع الرواتب أو تمويل البرامج.

تتذرع إسرائيل في اقتطاعاتها برواتب الأسرى والشهداء، وبفواتير الكهرباء والماء والخدمات، دون وجود آلية مشتركة للتحقق أو الطعن. هذا يعني عملياً أن كل نشاط اجتماعي أو اقتصادي فلسطيني قد يتحول إلى سبب لاحتجاز الأموال، ما يجعل المقاصة أداة عقاب جماعي، وليست مجرد ترتيبات مالية مؤقتة.

الأخطر أن هذا النموذج لا يُشبه أي نموذج مقاصة معروف عالميًا. فبينما تعتمد دول مثل الاتحاد الأوروبي أو الخليج العربي أنظمة مقاصة قائمة على السيادة المتبادلة والشفافية، نجد أن الحالة الفلسطينية تُدار من طرف واحد، يحتل الأرض ويتحكم في حركة المال ويستعمله كوسيلة ضغط سياسي واقتصادي.

أما نتائج هذه المعادلة المختلة فتنعكس بشكل مباشر على الشارع الفلسطيني: تأخر في دفع الرواتب، تراكم في الديون الشخصية للموظفين، انهيار ثقة المواطن في جدوى العمل الحكومي، وزيادة التوترات الاجتماعية والاقتصادية. كما أن القطاع الخاص يعاني من تذبذب في السيولة، ويؤجل استثماراته بسبب انعدام الاستقرار المالي العام.

في مواجهة هذه المعطيات، لا بد من البحث عن بدائل واقعية تبدأ بتوسيع القاعدة الضريبية الداخلية، وتفعيل الجباية المحلية العادلة، واعتماد سياسة إحلال الواردات لدعم المنتج المحلي وتخفيف الاعتماد على السوق الإسرائيلية. كما ينبغي تطوير آلية رقابة شفافة على أموال المقاصة من خلال وسطاء دوليين أو شركاء ماليين.

إلى جانب ذلك، يمكن استلهام تجارب دول عانت من التحكم في مواردها المالية من قبل أطراف خارجية، كما في حالة جنوب السودان بعد انفصاله أو كوسوفو في مرحلة ما بعد الحرب. في هذه الحالات، ساهمت الشراكات مع مؤسسات مالية دولية، وتبني عملات وطنية، وإنشاء بنوك مركزية مستقلة في تقليص التبعية وتعزيز الاستقلال المالي. ورغم الفوارق، فإن المنهجية قابلة للتكيف فلسطينياً ضمن رؤية متدرجة.

الأهم من ذلك هو بناء صندوق طوارئ وطني للتمويل المستدام، يمكّن الحكومة من تغطية الحد الأدنى من الرواتب والخدمات في حال تعطل تحويل المقاصة. وقد يتطلب هذا الصندوق دعماً من الشركاء الدوليين والعرب، لكنه يمثل خطوة سيادية باتجاه تقليل التبعية.

إن أزمة المقاصة لا تعكس فقط اختلالًا في العلاقة مع الاحتلال، بل تكشف أيضاً هشاشة السياسات المالية الفلسطينية واعتمادها على أدوات غير مضمونة. ولذا فإن أي حديث عن السيادة لا يكتمل دون معالجة هذا الملف المؤجل، ليس بالبيانات الإنشائية بل بسياسات استباقية ومؤسسات قادرة على تنفيذها.
فالسيادة لا تُمنح، بل تُبنى، وأول بنودها هو الحق في إدارة المال الوطني دون إذن من الخصم أو شروط من المحتل.

بقلم: الدكتور سعيد صبري – مستشار اقتصادي – عضو مجلس إدارة هيئة التحول الرقمي الدولية – دبي

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...