حين تسمى الردود مسرحيات، إسكات العقول لا يُغير الحقائق أمام ضرورة حماية وجودنا الوطني

الكاتب: مروان أميل طوباسي
منذ العدوان الإسرائيلي المباغت على مواقع داخل الأراضي الإيرانية في ١٣ حزيران ، دخلت المنطقة مرحلة جديدة حساسة من التصعيد المتبادل كانت قد دخلتها منذ عدوان الإبادة على غزة امتدادا لما سبق من احداث بدء من جريمة التهجير والنكبة عام ١٩٤٨ ، بلغت ذروتها مع الرد الإيراني النوعي غير المسبوق الذي استهدف مواقع عسكرية إسرائيلية وأميركية حيوية وأستراتيجية ، بما في ذلك قاعدة العديد في قطر ، بعد سرعة الولايات المتحدة بقصف منشآت المفاعلات النووية في إيران لانها لم تكن لتسمح لإسرائيل فعل ذلك لوحدها حتى ولو كانت لا تمتلك القنابل المناسبة لهذا العمل العسكري ، وذلك قبل أن تُعلن عن تفاهمات لوقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل .
في خضم هذا التصعيد ، ظهرت أصوات تزعم أن ما جرى لا يتعدى "مسرحية أميركية لتوزيع الأدوار" بين طهران وتل أبيب وواشنطن . وهو بأعتقادي تحليل سطحي لا يستند إلى معطيات واقعية ، ويستخف بالعقل وبعمق التحليل السياسي المطلوب للتحولات الحاصلة في موازين القوى الإقليمية والدولية ، وللرغبة الجامحة والمتوحشة لاستكمال تنفيذ المشروع الإستعماري "الشرق الاوسط الجديد" من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل وبموافقة أوروبية غربية ، في وقت انشغلت فيه قوى أخرى كروسيا والصين في بؤر توتر من الحروب العسكرية والأقتصادية تشعلها الولايات المتحدة والناتو بهدف الهيمنة الأوسع ، والتي باتت تتآكل شيئا فشيئاً بحكم طبيعة مسار التاريخ السياسي .
وبغض النظر عن أتفاقنا أو أختلافنا مع النظام في إيران ، وهو أمرٌ مشروع في ظل تنوع الرؤى داخل مجتمعنا السياسي الفلسطيني ، فإننا هنا نتحدث عن دولة يمكن الاختلاف أو التفاهم معها ضمن أطر السياسة والردع او حتى حول مشروعها بمقابل المشاريع الأخرى بالمنطقة في غياب مشروع عربي ، وذلك بما يجب ان يكون في اطار ما يحققه ذلك من مصلحة لشعبنا بعيدا عن النزعات الطائفية الدينية ، في وقت اعتقد فيه ان إيران قد أدركت أخطائها المتعلقة في نشر مفهوم ولاية الفقيه في عدد من دول المنطقة وما تركه ذلك من تداعيات سلبية على مجتمعات تلك الدول والعلاقات الوطنية فيها .
أما حين يتعلق الأمر بإسرائيل ، فنحن أمام كيان أستعماري ينشر ارهاب الأحتلال والأستيطان لا يتيح مجالا لأي اتفاق معه او الوقوف في صفه تحت أي مبرر في مواجهة الموقف الإيراني . فإسرائيل كأداة المشروع الإستعماري الغربي بالمنطقة وصاحبة الفكر الصهيوني تواصل محاولات إلغاء الآخر ، وتمارس عدوان التصفية الوجودية لشعبنا ولقضيتنا التحررية من خلال جرائم الإبادة والتهجير والتطهير العرقي بحق شعبنا وشعوب اخرى منذ حوالي قرن من الزمن .
لذلك ، فإن ما حدث لا يمكن تفسيره بمنطق المسرحيات والمؤامرات الجاهزة . لقد جاء الرد الإيراني مدروساً وواضحاً ومؤثرا بالعمق الإسرائيلي الذي منعت الرقابة العسكرية نشر تفاصيله كاملة حتى اليوم ، وتضمن استهدافاً مباشراً لمنشآت حيوية وعسكرية إسرائيلية واسعة لم تشهدها دولة الأحتلال من قبل ، وتوسع لاحقاً ليشمل قاعدة العديد الأميركية في قطر باعتبارها أرضا أمريكية بمفهوم القانون الدولي ، وفرض معادلة جديدة لا يمكن تجاهلها ، وهو ما تمثل سابقا برد حزب الله كطرف مقاوم الى حد ما في مواجهة العدوان والتوسع الإسرائيلي ، لكن ليس بنفس القدر من حجم النيران الصاروخية الإيرانية التي استخدم بعضها لأول مرة .
فهل من المنطقي أن تُقدم إسرائيل على تنفيذ هجوم داخل إيران نفسها ، بكل ما يحمله ذلك من تبعات خطيرة ، لو كان الأمر مجرد مسرحية منسقة مع طهران وواشنطن؟ وهل كانت واشنطن لتصمت على استهداف إحدى أهم قواعدها العسكرية بالشرق الأوسط ، حتى وإن تم تفريغها ، لو لم يكن هذا الفعل خارج السيطرة ؟
أما وقف إطلاق النار ، فلا علاقة له بتفاهم مسبق ، بل كان نتاج حسابات معقدة لدى جميع الأطراف ، خاصة بعد صراخ الوجع الاستغاثي الإسرائيلي امام واشنطن للتدخل حين بات الأمر واضحاً في أن اسرائيل قد لا تتحمل مزيدا من الضربات والأستنزاف الطويل والهجرة المعاكسة ، وان الاستمرار في التصعيد سيقود إلى خسائر كبيرة في قطاعات مختلفة والى مواجهة إقليمية شاملة قد تستدعي حينها تدخل روسيا والصين وفق اتفاقيات التحالف مع إيران .
لذلك فإن ردّ إيران على الأعتداءات الإسرائيلية هو في جوهره موقف سياسي وميداني ضد المشروع الأستعماري الغربي بالمنطقة الذي يسعى لتأمين تفوق اسرائيل وفتح كافة المسارات الجوية والبحرية بل والبرية أمامها لمحاولات توسعها الإستعماري ، وليس مجرد تصفية حسابات إقليمية كما يروّج البعض . وهذا ما ينبغي إدراكه عند قراءة السياق الأوسع للصراع .
لقد دخلنا مرحلة جديدة من التوازنات ، تُصاغ فيها قواعد اشتباك مختلفة عن السابق . مرحلة لم تعد فيها واشنطن مضطرة لحماية أمن إسرائيل دون أن تُستهدف مصالحها ، ولم تعد فيها تل أبيب تمتلك القدرة على الضرب دون أن تتلقى الرد .
من يُروج لفكرة "المسرحية" بما في ذلك مسألة اخلاء منشأة فودرو النووية قبل ضربها ، والذي يبدو أنه لم يكن مسرحية ، بل عمل خداع أستخباراتي إيراني بتعاون روسيا ، يُكذب الرواية السطحية التي تحاول تصوير الرد الإيراني كجزء من "تفاهم" غير معلن . هذا الادعاء يغفل عن فهم طبيعة الصراع الإستعماري الطويل في منطقتنا عن قصد او بدون قصد ، ويفضل التفسير التآمري المريح من خلال اعتماد "نظرية المؤامرة" باعتبارها نظرية محببة للعقل العربي التقليدي من جهة ، ولقطع الطريق أمام التحليل السياسي العميق والجاد للواقع الجديد الذي يتشكل أمام أعيننا بالأقليم وخاصة بالوطن من تحديات كبيرة حالية وقادمة من جهة أخرى .
إن ما جرى لا يجب التعامل معه بخفة أو عبر تفسيرات تآمرية جاهزة ، بل يجب أن يُقرأ في سياقه الطبيعي كجزء من صراع مفتوح بين مشروعين متناقضين :
-- الأول ، مشروع الهيمنة الأميركية–الإسرائيلية الذي يستهدف شعوب المنطقة وحقوقها وسيادة دولها وأمنها القومي .
-- والثاني ، مشروع تحرري يسعى لإعادة صياغة التوازنات وفرض كلفة على الأحتلال والعدوان ، رغم تعقيداته والصعوبات التي يواجهها .
اليوم ، ليس المطلوب هنا أن نُصفق لهذا الطرف أو ذاك في مسار الصراعات الدولية ، بل أن نقرأ اللحظة التاريخية بعينٍ واعية وبما له علاقة بمصلحة مسارنا الكفاحي الوطني التحرري والخلاص من الأحتلال ، هذا الحق الذي تقف بمواجهته الولايات المتحدة باستمرار . ما جرى وما زال يجري ليس عرضاً مسرحياً بل صراع إرادات ومعادلات ، والصمت أو الإنتظار او التردد فيه لا يخدم موضوعياً مواجهة المشروع الإستعماري .
وفي هذا الإطار ، من المهم القول أن ما تم حول "وقف إطلاق النار" بين إيران وإسرائيل لا يعني نهاية الحرب أو تراجع مشروع الهيمنة . فوقف إطلاق النار لا يُلغي طبيعة الصراع ولا يُنهي أسباب التصعيد ، بل هو تعبير عن توازن مؤقت فرضته الوقائع على الأرض ، وخشية من انفجار إقليمي واسع كما ذكرت ، قد تخرج فيه الأمور عن السيطرة . وبالتالي ، فإن أي تهدئة تُروج الآن ليست سوى مؤقتة برأيي في سياق صراع مفتوح يُحدد مساره في اطار الصراع والمتغيرات الدولية ورغبة إيران في اطار تحالفاتها وعضويتها بمجموعة البريكس لان تكون لاعباً مهماً بالمنطقة بمقابل الدور الإسرائيلي والتركي والسعودي . وهنا فان عملية وقف اطلاق النار ، ليست نقطة بداية لتسوية حقيقية أو تراجع في المشروع الأستعماري الإسرائيلي الأميركي ، بل مؤشرا على تخلخلها ، الامر الذي يتوجب البناء عليه .
ومن جهة ثانية ، فأن الحديث المتداول عن "هدنة" أو "وقف لإطلاق النار" بين حماس وإسرائيل في ظل تصاعد اعمال الإبادة كما بعمليات المقاومة النوعية بالأيام الاخيرة بغض النظر عن تفاوت الآراء حول بداية ٧ أكتوبر من حيث الحسابات لا من حيث مفهوم مبدأ المقاومة كحق شرعي ضد الأحتلال الذي يتوجب ممارسته وفق ظروف تمكين صمود شعبنا وخدمة هدف سياسي فلسطيني له علاقة بالاستقلال الوطني ، وهو ما لا يجب فهمه كمسرحية مرة أخرى أو نهاية لمسار الحرب . فإسرائيل لم توقف عدوانها يوماً ولن توقفه طالما لم يُفرض عليها ، لا على غزة ولا على الضفة والقدس ولا على تجمعات شعبنا الفلسطين في أسرائيل نفسها وفي شتات الدول المجاورة . فما يجري هو أقرب إلى إعادة تموضع مؤقت لمحاولة فرض شروط سياسية جديدة ، تحت مسميات "إنسانية أو تفاوضية " ، بينما تستمر في تنفيذ مشروعها الإستعماري التفكيكي الأحلالي ضد شعبنا الفلسطيني ومنع اقامة دولة فلسطينية وفق ما قاله نتنياهو اليوم خلال لقاءه ترامب الذي بدوره أيد رؤية نتنياهو تلك في فهمه "للسلام" . ورغم حاجة شعبنا الماسة اليوم في غزة لوقف القتل والتدمير والإبادة من خلال وقف إطلاق النار ، الا ان ذلك يعني بالنسبة للأحتلال اعادة ترتيب أدوات الهيمنة واولوياتها وعزل شعبنا في غزة "بغيتوهات رفح" تحضيرا لتهجير اعداد كبيرة منهم في اطار ما يسمى "الطوعي" الى دول يجري الترتيب معها وفق تصريحات نتنياهو في واشنطن تحت شعار "حرية الاختيار" ، ومن ثم ترتيبات أدارة القطاع برباعية عربية دولية بإشراف أمريكي وبمشاركة مؤسسة غزة الانسانية الأمريكية المتورطة بالاجرام والإبادة ، ودون مشاركة السلطة الوطنية الفلسطينية وفق ما يخرج من تسريبات ، والتي يتم تقويض دورها بالضفة الغربية من جهة اخرى ، رغم سياسات الصمت والأنتظار والبحث عن دور . ومن ثم انتقال أسرائيل الى مواصلة التهويد والضم الأستيطاني للأرض بالضفة كما تم بالقدس لمحاولات تنفيذ "مشروع أسرائيل الكبرى" الحائز على دعم الترامبية ، وتصفية القضية الوطنية التحررية لشعبنا وتطويع أنظمة الإقليم من خلال ما يسمى بالدرع الإبراهيمي .
اليوم المسوؤلية الوطنية جسيمة وكبيرة ومفصلية ، فهل نرتقي بها الى مستوى مجريات الاحداث ومواجهتها لحماية وجودنا ووجود شعبا تحديدا في مواجهة هجمات وارهاب المستوطنين اليومية ، واعادة تقييم وإيضاح مشروعنا الوطني التحرري برؤية استراتيجية جامعة موحدة وواسعة تمثل الكل الفلسطيني في اطار منظمة التحرير كجسم فاعل ومستنهض ومُعبر عن فكر التحرر الوطني ، كما ايضا استنهاض "فتح" كحركة تحرر لا كأطار وظيفي او حزبا للسلطة يشكلها الوظيفي التي يجب ان تغادر مربع الصمت والأنتظار في مواجهة ما يجري من حيث وضوح البرامج والأدوات وعقد الأنتخابات العامة كحق اساسي لشعبنا تتجدد وتتغير الهيئات القيادية . هذا هو السؤال الأساس اليوم ، فالتاريخ السياسي متحرك ومتغير ولا ينتظر أحداً .